د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
اتخذت الحكومة بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين وقيادة ولي العهد حفظه الله إجراءات قوية وصارمة لمحاربة الفساد لم تستثن أحدًا كائنًا من كان. ورافق إجراءات الحكومة جدل مجتمعي كبير حول الفساد، وأصبح الناس يتتبعون أخبار الإجراءات الحكومية بشغف وحرص كبيرين. ولا يخفى على الكثير أن الفساد في مرحلة ما بلغ مبلغاً من مجتمعنا أغضب القاصي والداني، حتى أنه أصبح ينظر لبعض الفاسدين على أنهم من الناجحين وأنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، كتف المال العام بالطبع، وأنهم هم من يفهم المجتمع بشكل صحيح.
والقضاء على الفساد أو على الأقل تضييق دائرته إلى أقصى حد ممكن من أهم قضايا الإدارة والتشريع، وأفردت له في الآونة الأخيرة دراسات خاصة تعنى بتشخيصه: أسبابًا، وأعراضًا، وعلاجًا. فالفساد ظاهرة عالمية تتفاوت من بلد لآخر حسب تركيبته السياسية، وأنماط انتاجه الاقتصادي، وطبيعة علاقاته الاجتماعية، ونظامه القضائي. وليس للفساد حجم معين يتوقف عنده، فالفساد، ولا شيء غيره، قارب على تدمير الاقتصاد العالمي برمته في عام 2008م، وهو سبب كثير من الأزمات الاقتصادية والمالية الدولية المتلاحقة.
عرف الباحثون الفساد على أنه خيانة الأمانة من قبل المؤتمن عليها. ويشمل إضافة لأشكاله التقليدية المألوفة كالاختلاس، أو التزييف، أو الرشوة أشكالاً أخرى كالتصرف بغير أمانة وصدق بالصلاحيات، ويدخل ضمن ذلك الإهمال المتعمد الذي يترتب عليه الضرر، وسوء الأداء، والتفرقة بين الناس لأي سبب كان، واجتباء المعارف والأقارب. وتعرفه لجنة الشفافية العالمية: «بسوء استخدام الصلاحيات العامة للفائدة الخاصة».
ومن الأسباب الأساسية لانتشار الفساد تدني مستوى التعليم، كمًا وكيفًا، وفشل التربية الأخلاقية، وانتشار التفاوت الطبقي، والفقر وغيرها. وهناك علاقة جدلية خطيرة بين تدني التربية الأخلاقية وانتشار الفساد، فكلما تدنى مستوى التعليم انتشر الفساد، وكلما تفشى الفساد انحدر التعليم. ومن أسباب انتشار ثقافة الفساد اتساع الفجوة بين قيم المجتمع والممارسة الفعلية لهذه القيم عندما يتم التخلي التدريجي عن بعض القيم الأخلاقية تدريجيًا، ويبدأ النظر لقيم أخرى تبرر الفساد على أنها مقبولة أو حتى مستحبة، فيلتبس على المجتمع السلوك السوي مع السلوك غير السوي. وقد يساعد على تفشي ممارسة الفساد وجود أفراد نافذين لا يطالهم القانون، أو تفشي ما يسمى بالعدالة الانتقائية.
ويربط بعض الباحثين الاقتصاديين بين التخطيط الاقتصادي السليم، ووضوح الأهداف التنموية والحد من انتشار الفساد. فالدول التي تركز على النمو والتطور والمنافسة، تهتم بثقافة التخطيط السليم، وتحافظ على مواردها والاستخدام الأمثل لهذه الموارد، ولا تسمح بالفساد. فالحرص على المستقبل يدفع تدريجياً للعمل المؤسسي، وينعكس على طبيعة شكل المؤسسات، واختيار القيادات الكفؤة لها. وعكسها الثقافات التي ترتكز في توجهاتها للمستقبل على قيم الماضي، وتخضع خططها لمقاييس الأعراف، والتقاليد، والقيم، المتوارثة وتجاملها؛ فيطبع التخطيط فيها قصر النظر، وينصب الاهتمام على الحاضر وسبل الاستمتاع به دون النظر في عواقب المستقبل؛ ففي أجواء مثل هذه الثقافات تنتشر عادات البذخ، والتفاخر، والإهمال وهي البيئة الخصبة المؤهلة لتفشي الفساد. فهناك حسب الباحثين علاقة عكسية بين الاهتمام بالمستقبل وانتشار الفساد.
ومن سمات المجتمعات ذات التكوين المؤسساتي ذوبان المصلحة الخاصة في المصلحة العامة، فالفرد يرى مصيره مرتبطاً بمصير مؤسسته ومجتمعه، لا العكس. ويحد العمل في المؤسسات الجادة ذات الأهداف الواضحة والإدارة السليمة من خطر تفشي الفساد.
ويخالف ذلك العمل الذي يكون طابعه فردياً، ويعتمد على الأداء والعبقرية الفردية، ففساد الفرد في هذه الحالة يدمر المؤسسة بكاملها. والقيادات الفردية تولد وحدات إدارية أصغر على شكل مجموعات تتبع لأفراد يتبعون نمط رئيسهم الفردي ذاته، ويصبح جسم المؤسسة كالنسيج العنقودي المكون من خلايا تتناقل عدوى الفساد. ويضاف لعوامل تفشي الفساد تباعد السلطات، حيث تتباعد مسافة العلاقة البيروقراطية بين من بيدهم السلطة وأولئك ممن يتأثرون بممارستها. فكلما تباعدت المسافة بين السلطات زاد التركيز على مفاهيم الولاء والطاعة العمياء، وهنا ينظر للسلطة ليس في كونها سلطة تسهم في التنظيم والتخطيط الجيدين بل في كونها تحافظ على النظام، وثبات في العلاقات، وضمانة استمرار الأوضاع الراهنة، فيكون شكل السلطة البيروقراطية وتوجهها من الأعلى للأسفل فقط. ولا تمكن مكافحة الفساد بمحاربة ممارساته فقط، لأن الفساد مثل الحشائش الضارة المميتة يعاود الانتشار بوتيرة أسرع منها، ولا بد من مكافحة الثقافة التي تنتج الفساد، ومعالجة التربة التي ينمو فيها، والتشريع الدقيق لسد منافذه.