أ.د.عثمان بن صالح العامر
هناك من يرفض الحديث عن المستقبل المنظور فضلاً عمّا هو أبعد من ذلك سواء أكان سبب الرفض المنطلق الديني الصرف، أم لقناعة هذا الإنسان بأن التسارع العالمي والأحداث المتتابعة والتحولات المتتالية لا تسمح للتفكير البشري المحدود بأن يعطي رأياً مدروساً عَمَّا يمكن أن يحدث في قادم الأيام، وفي المقابل هناك من يتحدث عن الغد القريب منه - بل حتى البعيد - بلغة الجزم المقطوع به، وكأنه يتكلم عن الحال الذي يعيشه اليوم، وهذا النوع - من الدراسات والأبحاث المتخصصة أو الآراء الشخصية والتكهنات المرتجلة التي يسطرها كاتب مغمور- أشد سلبا من سابقه على متابعيه قراء كانوا أو مستمعين.
إن سبر المستقبل أياً كان مجاله دينياً أو سياسياً أو اقتصاديا أو فكرياً أو اجتماعياً، محلياً أو عالمياً، يجب أن يرتكز على معطيات الواقع، ويستلهم صفحات الماضي، ويستشرف قادم الأيام ولكن بعقلية المحلل، ونظرة الخبير، وعمق المفكر القدير، القارئ للجهات الأربع، العارف بتحولات فصول السنة وحركات الرياح وتقلبات الأحداث مداً وجرزاً، مع عدم إعطاء الجزم وتوظيف لغة اليقين - التي لا يساورها شك ولا يخالطها ظن أو ريب - حين إقرار ما يرى أنه سيكون يوماً ما.
لقد كثر المحللون، وتعددت الأطروحات، واتسعت رقعة المنجمين، ووجد المسوقون للمستقبليات سوقاً رائجة في الشارع العربي للأسف الشديد، ومن هذا الباب الواسع عمل أعداء الوطن وسراق الحقيقة يوماً ما على إدخال أجنداتهم التي يمنون أنفسهم بها - من خلال دراسات موجهة، ومقالات منمّقة، ولقاءات وأحاديث متلفزة أو... لخدمة أهدافهم المشبوهة - مدعين أن هذا هو المستقبل المجزوم به حتى صرنا نقرأ عن «الشرق الأوسط الجديد»، «العولمة التي ستبتلع الكل»، «ومثله مصطلح «النظام العالمي الجديد» الذي سكه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب وأطلقه عشية 11 سبتمبر 1991م، «الفوضى الخلاقة كطريق لتقسيم الوطن العربي أكثر مما هو عليه حاله اليوم»، «سايكس بيكو الجديدة»، أكثر من هذا كله كان الحديث سوداوياً عن مستقبل مملكتنا الغالية للأسف الشديد. أقول إننا كنّا نقرأ ونسمع من يردد صباح مساء أن هذا هو قدرنا المحتوم لا شيء غيره، هو المستقبل الذي ننتظره كحتمية تاريخية لا مفر منها، بل راج في العالم كله بلا استثناء أننا نقترب من الفناء «نهاية التاريخ».
لا أريد استعادة صفحات تلك الأيام، ولكن أجزم أن في التاريخ رجالاً لا يكتفون بإجالة النظر في المستقبليات وتحليل الأحداث وانتظار ساعة الصفر، ولكنهم هم من ينبرون لصناعة الغد وتغيير بوصلة ما سيكون بعد عون الله لهم وتوفيقه، وما نعيشه اليوم من أحداث في المملكة العربية السعودية هو بإيجاز صناعة حقيقية للمستقبل توجب على مراكز الأبحاث والدراسات المتخصصة العالمية منها والمحلية إعادة تأهيل وتصحيح للذهنية المتخصصة حتى تتمكن من قراءة المستقبل السعودي ببصيرة متقدة ومنافذ معرفة سليمة.
نعم نحن في عهد العزم والإرادة والحزم نخوض اضطراراً معركة حقيقية من أجل مستقبل واعد يختلف عن كثير مما قاله وكتب عنه منظرو المستقبل قبل سنوات معدودة، ولم يكن لا هذا ولا ذاك ليتحقق لولا أن الله عز وجل قيض لنا قادة أبطالاً وساسة أفذاذاً غيروا مجرى التاريخ، واستطاعوا صياغة لغة جديدة فرضت نفسها على العالم قاطبة، وهذه فرصة ثمينة لمن أراد أن ينبري ليطرح رؤيته المستقبلية على ضوء ما هو حادث على الساحات الخمس، وإنني على يقين أنه سيكتب ويبدع أفضل مما طرحه فرانسيس فوكوياما في «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، أو صامويل هنتنجتون في مؤلفه «صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي». حفظ الله قادتنا، ويسر أمرنا، ونصر جندنا، وجمع كلمتنا، ووحد صفنا، ووفق علماءنا ومفكرينا، ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء والسلام.