فضل بن سعد البوعينين
بالرغم من مشروعات تصريف السيول والأمطار المنجزة، والاعتمادات المالية المعتمدة، غرقت جدة من جديد، وكأنها تصر على فضح فكر بعض المسؤولين عن تنفيذ مشروعات التصريف قبل ذممهم. والذمم لا ترتبط بالأموال فحسب، بل بالقدرة على تحمُّل مسؤولية معالجة الأزمات ودرء مخاطرها المتكررة.
لا خلاف على بعض التحسن الذي طرأ على شبكة تصريف مياه الأمطار منذ كارثة جدة الأولى، غير أن معالجة أسباب أزمات الغرق لم تصل حد الكفاءة بعد؛ ما يؤكد أننا في حاجة أكثر إلى الفكر القادر على وضع المشروعات الناجعة لضمان معالجة أزمات الغرق قبل اعتماداتها المالية. لم تعد الاعتمادات المالية سببًا مقنعًا للتقصير بعد ضخ الحكومة ميزانيات ضخمة في مشروعات تصريف السيول والأمطار منذ كارثة جدة الأولى؛ ما يعني انكشافنا على أزمة فكر وإدارة، عجزت عن تحديد مكامن الخلل واقتراح المشروعات، ومن ثم تصميمها وتنفيذها وإدارتها والإشراف عليها.
غياب تحديد مكامن الخلل، واقتراح المشروعات، وتصميمها، ومن ثم تنفيذها بجودة عالية ونزاهة، ورقابة صارمة.. من أسباب تشوه مخرجات البنى التحتية، وهدر النفقات الحكومية، واستمرار الأزمات، ومنها أزمات غرق المدن التي لن تقتصر على جدة، بل ستطول غالبية مدن المملكة بمجرد تعرُّضها لكميات أمطار متوسطة.
استدامة الأزمات، وفي مقدمها أزمة تصريف مياه الأمطار والسيول، تؤكد أن الجهود المبذولة لمعالجتها لا تتوافق مع حجم المشكلة. التركيز على «غرق الأنفاق» والشوارع والأحياء الجديدة ومناسيبها قد يساعد في صناعة الحلول الإدارية والفنية في آن. حلول مستدامة تقضي على المشكلة، وتؤسس لضوابط ومعايير، تلتزم وزارتا الشؤون البلدية والنقل بتطبيقها مستقبلاً لمنع استنساخ المشكلة في الأحياء والأنفاق والشوارع مستقبلاً.
قد تكون الأزمات المفاجئة من أدوات العلاج المتاحة؛ فالأمطار الغزيرة كشفت بوضوح عن مكامن الخلل الإداري والفني؛ ما يستوجب تدخُّل الحكومة السريع لمعالجة الأخطاء، وإيجاد الحلول الدائمة لها. أتجاوز الخلل الإداري، وأركز على الخلل الفني الذي يفترض أن يكون من أولويات المراجعة والمعالجة المستدامة. فغرق الأنفاق والطرقات وبعض المدن السعودية ليس وليد اللحظة، بل هو أمر دائم، يحدث لمجرد تساقط الأمطار المتوسطة. حالة الغرق العامة يمكن أن تسهم في وضع «أطلس» المواقع المتضررة من السيول والأمطار؛ لتشكل قاعدة بيانات موثوقة لمواقع الخلل، وتجمُّع مياه الأمطار، ومواقع الأزمات الدائمة. التعامل معها وفق رؤية استراتيجية وبرامج عاجلة مصححة للأخطاء السابقة هو ما نحتاج إليه في الوقت الحالي. لنجعل من عدم تكرار حدوث مشكلة الغرق في المواقع التي يتم معالجتها من أولويات الحكومة وأجهزتها الخدمية المستوجبة خطط الإنقاذ العاجلة.
أتمنى على مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الاستفادة من الخبرات العالمية القادرة على معالجة أزمات السيول والأمطار، والشركات المختصة في مشروعاتها؛ للقضاء على أزمة «غرق المدن السعودية». ولعلي أشير إلى أهم مشروعات تصريف السيول للمدن القائمة، وهو مشروع «الثقب الأفقي» الذي أُنجز في محافظة عنيزة؛ إذ تضمن المشروع إنشاء ثلاث عبارات خرسانية ضخمة على عمق 25 مترًا، وامتداد 7 كيلومترات، قادرة على نقل السيول بطريقة آمنة أسفل المدينة، وهي طريقة مثالية لمعالجة مشكلات السيول في المدن مكتملة البناء.
الفكر قبل المال، والعبرة في كفاءة مشروعات السيول والأمطار لا عددها وتكلفتها. تكرار التجارب السابقة سيوصلنا إلى النتائج الخاطئة نفسها؛ ما يستوجب العمل وفق برامج مُحكمة، تُعهد لخبراء عالميين مختصين في تصميم مشروعات حماية المدن من السيول والأمطار، ويُعهد تنفيذها للشركات العالمية ذات الكفاءة.