د. محمد بن إبراهيم الملحم
حضرت الأسبوع المنصرم منتدى أسبار الدولي الذي كان حول الابتكار وعلاقته باقتصاد المعرفة، وقد نجحت مجموعة إدارة المنتدى برئاسة الأخ الدكتور فهد العرابي الحارثي وزملائه وزميلاته وعلى رأسهم نائبته في رئاسة المنتدى الأستاذة فاطمة الشريف في تقديم منتدى نوعي متميز سواء بخدماته وتنظيمه أو بطرحه في الموضوع أو في ضيوفه ومتحدثيه، وحيث خصصت إحدى الجلسات عن التعليم وعلاقته بالابتكار فقد رأيت أن ألقي الضوء هنا على هذا الجانب سواء فيما تضمنه المنتدى (في تلك الجلسة وغيرها) أو في تقديم تصوري عن هذا الجانب، فقد تحدث أغلب الضيوف عن دور التعليم في تنمية الابتكار كما أكدوا على ضرورة التفكير بصورة مختلفة عن النمط السائد ليتمكن التعليم من الارتقاء بالمبتكر ورعايته، فقد وردت إشارات حول تربية الطفل القائمة على حرية طرح الأسئلة وأهمية صياغة المناهج بأسلوب يدعم الابتكار والإبداع وتشجيع المعلم على طرح الأساليب الجديدة في التدريس من خلال المنصات التشاركية لإعداد الدروس واختيار طلاب الدراسات العليا بناءً على قدرتهم على المشكلات لا على قدراتهم الأكاديمية وخلفيتهم التحصيلية فقط. وتمنيت أن يكون هناك تجربة مباشرة أو دراسة نوعية ذات علاقة بهذا الموضوع (علاقة التعليم بالابتكار) لكي يمكن استلهام رؤية محلية من خلالها، حيث اقتصر حديث أغلب المشاركين على تصورات الخبرة ومدلولات ثقافية عامة من أدبيات هذا الموضوع أو استعراض بعض المبادرات التي تقدّم «قيمة مضافة»، بيد أن أثر التعليم على الابتكار هو من الآثار المباشرة والتي يمكن أن يكون لها دورها البارز إذا ما وظِّف بشكل جيد متناغم مع رؤية وطنية وخطط تصنيع وتسويق وأنظمة حماية وإدارة تتبنى الابتكار كرافد رئيس للاقتصاد.
ولكي يساهم أي تعليم في رعاية الابتكار فيجب أن تتوفر به عدة مقومات تكفل له القيام بهذا الدور الحساس والمهم، أولاً أن يكون بيئة حاضنة للإبداع والمبدعين، وثانياً أن يتوفر بالمنهج التعليمي ما يعزِّز الابتكار من مهام وأنشطة وأفكار وتطبيقات، على أن تكون مخططة بطريقة مدروسة تتناسب ومتطلبات كل فئة عمرية وتتدرج بالطلاب من الممكن جداً إلى الأقل إمكانية، وثالثاً لا بد أن يدعم هذا وذاك المواد والأدوات والخبرات التي تساعد الطالب على التطبيق العملي وتذوّق تجربة الابتكار عن كثب ثم التعايش معها وتكرارها حتى يبلغ حكمتها ويحذق فنها، ورابعاً ينبغي أن يوفر النظام التعليمي لنشاط التعلم الابتكاري مساحة زمنية كافية، فهو نشاط تأملي في بعض مراحله وتطبيقي مستغرق في مراحله الأخرى، وكلاهما يتطلبان بعداً زمنياً كافياً لتحقيق الأهداف وبلوغ غاية الاستثمار في المبتكر. كل هذه (وغيرها) تحديات مهمة في وجه التعليم ليتمكَّن من رعاية الابتكار.
وقبل كل هذه العوامل تظل بيئة المؤسسة التعليمية وجوها العام أهم المقومات وأقوى العوامل، ويكفي أن نتأمل في مواصفات المبتكرين المبدعين لنعلم أن أمام المدرسة السعودية مشكلة كبيرة في التعامل معهم أو حتى التفكير في رعايتهم؛ فهؤلاء ليسوا بالضرورة من فئة الطلاب المتفوّقين أكاديمياً أو «الشطَّار» العقلاء المتميزين خلقاً أو أداءً دراسياً، بل يمكن أن يكون بعضهم من الفئة «المزعجة» فهم غالباً لا يستجيبون للتنظيمات النمطية كالانضباط الزمني والمكاني أو الاستجابة للتعلّم القائم على الحفظ والتذكّر، وتستهوي كثيراً منهم المجالات التي تتحدى المهارات أكثر من تلك التي تتطلب المعارف الإدراكية التجريدية، وهذه مواصفات لا ترحب بها المدرسة النمطية لاختلاطها مع مواصفات فئة المهملين أو المشاغبين غير المبدعين! فالتفرقة بين النوعين من الطلاب مهمة عسيرة فعلاً وتتطلّب خبرة عميقة وبصيرة نافذة قليل من يتمكّن منها، لذا لا بد من توفر معلمين من مستوى عال يملكون فنيات التعامل والفهم، وكذلك توفر إدارة مدرسة لديها كمية هائلة من الوعي والحس التربوي المتقدم، وإذا تأملنا أن رعاية المبتكر الذي هو من فئة غير المجتهدين أكاديمياً (ضعيفي التحصيل) فكرة تنبذها عقلية المعلم التقليدية وأضفنا إليها ضرورة توفر المقومات الأربعة التي أشرت إليها آنفاً فإن المؤسسة التعليمية النمطية ستحتاج جهوداً مضاعفة لتوصل منسوبيها إلى هذا النمط الفكري والتصور التربوي مع تكوين بيئة الابتكار بكل مقوماتها الرافدة للاقتصاد الوطني ... وحتى يكون ذلك سيظل أملنا في مبتكرينا السعوديين الذين سيرتقون باقتصادنا إلى القمة ينبض بالحياة دون كلل، وشكراً جزيلاً أسبار.