يروي التاريخ عن المنتصر فنونًا من الغطرسة والخيلاء، توازي في شدتها ما للمهزوم من مكانة واعتبار. ولا يعني الانكماش السياسي والعسكري التحلل الوجودي بالنسبة للمنكسر؛ ففي سجلات التاريخ حالات من الهيمنة الثقافية للمنهزم، وليس النموذج اليوناني إزاء نظيره الروماني عنا ببعيد. وفي الحالة العربية الأندلسية نماذج أخرى، رغم كونها ثقافة منفردة من جهة تألفها في الأصل من عناصر المحيط نفسه، وهو الأمر الذي يجعل من محاولة اجتثاثها نوعًا من الحماقة المركبة.
ومن صور هذه الحالة ظاهرة بني سراج؛ الأسرة الغرناطية العريقة، التي لا شك أنها حازت من الشهرة بعد سقوط الأندلس أضعاف ما نالته قبله؛ إذ لم يصنع لها دور المتنفذ ما صنعه موقف المهزوم المتقهقر. وزائر غرناطة اليوم، وقصر الحمراء تحديدًا، يرصد تهافت الزوار على مرفق صغير يطلق عليه الإسبان «قاعة بني سراج» Sala de Abencerrajes، وهو في الأصل من أبنية قصر «الرياض السعيد» الذي كان قد شيده السلطان الغني بالله محمد الخامس (ق. 8 هـ) ويحوي أيضًا صالة الأختين وبهو السباع.
وزائر هذه الردهة الصغيرة - رغم ما في قبتها وجدرانها من جميل الصناعة- ينحدر ببصره إلى الأرض صوب النافورة التي تتوسط حوض الماء، حيث آثار دماء بني سراج المغدورين في القصة الدرامية الشهيرة. وهؤلاء الذين عرفوا ببرامكة الأندلس، أسرة عريقة لم تبرز أدوارهم الكبرى إلا في العهد الأخير مع صراع البيت الحاكم في غرناطة، حين انحازوا للشرعية الممثلة بعائشة الحرة وابنها أبي عبد الله الصغير ضد والده وإخوته غير الأشقاء، وعندما تهاوت الأندلس وقضى الإسبان على الحكم العربي تمامًا؛ اتقدت جمرتهم في الذاكرة الشعبية، أحيطوا بكثير من الأساطير والخيالات كتلك التي ذكرناها.
ومن المسرودات التي تصورهم في مقام المأثرة والكبرياء رغم انحسار ظلهم، ما يحكى من قصة الفارس ابن سراج الذي وقع في أسر الإسبان بعد مقاومة بطولية، ولأنه كان في طريقه للقاء محبوبته «شريفة»، كان عليه أن يجد وسيلة لتعليق الأسر حتى يؤوب من مهمته، فكان له ما أراد حين حصل من القائد الإسباني على الإذن للقاء شريفة والعودة للسجن مجددًا، ولم يكن هناك من ضمانات تذكر سوى اليقين بمروءة الفارس ونبل محتده. وفعلًا يعود الفارس لأسره سريعًا بعد رؤية محبوبته، ما حدا بالقائد المسيحي لإطلاق سراحه؛ إجلالًا لوفائه وإخلاصه وهو يضحي بنعمة الاجتماع مع من أحب، ويختار قيود السجن بعزة على سعة الدنيا وخرق الذمة والمروءة.
إنها قصة ملهمة للغاية، ذاعت في أوساط الأدباء والمرهفين؛ لتغدو بها شخصية ابن سراج أيقونة الحب الشريف والنخوة الفياضة. واللافت أن لهذه الحكاية مقابلًا في التراث العربي القديم؛ فيحكى أن جماعة أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ممسكين بفتى قتل والدهم، وحين سؤاله أقر بجريرته وبات من المؤكد تطبيق حد القتل في حقه قصاصًا. هنا طلب الفتى من عمر أن يمهله مدة ذهابه إلى أسرته ليودعهم ويستوثق لهم، وكان ضمينه في ذلك الصحابي أبو ذر الغفاري رضي الله عنه الذي لم يخذل فراسة الشاب فيه، فانطلق وبقي أبو ذر الغفاري مرتهنًا لوفاء الشاب الذي لا يعرفه. وقبل تصرم الأيام الثلاثة المتصالح عليها، عاد صاحب أبي ذر في اللحظة الحرجة، فما كان من عمر إلا أن سأله مندهشًا عن سبب عودته، فقال: خشيت إن يقال: ضاع الوفاء بين الناس، وكان جواب الغفاري: خشيت أن يقال ضاعت المروءة بين الناس، ويسدل الستار بعبارة أولياء الدم بعد عفوهم عن قاتل أبيهم: حتى لا يقال: ضاع العفو بين الناس!
وما يعنينا ليس صواب الرواية أو منطقيتها؛ بل ثبوتها في كتب التراث العربي؛ فقد وردت في كتاب الإتليدي: « نوادر الخلفاء المعروف بـ: «إعلام الناس بما وقع للبرامكة مع بني العباس»، والإتليدي من رجال القرن السابع عشر الميلادي، وعليه فلن تكون أصلًا ملهمًا لقصة ابن سراج وهي متأخرة عنها زمنيًا. لكنها تنسلك في عداد الحلقة التأثيرية التي أعني بها دخول النص المحكي أو المكتوب في دورة من التأثر والتأثير معًا؛ فهذا الأبشيهي في كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف»، وهو أسبق زمنيًا من حكاية ابن سراج، يحدثنا عن رجل يعرف بالطائي أوقعه سوء طالعه في يوم بؤس الملك النعمان بن منذر الذي عزم على قتله، فاستأذن لقضاء بعض شؤون أهله بضمانة رجل لا يعرفه، ثم عاد وفاء بذمته لتشيع الجمل الثلاث السابقة في قصة عمر بن الخطاب.
نحن حيال ثلاث حكايا متفاوتة النسيج والشخصيات، تجمعها قيم النبل والمروءة والوفاء التي تشترك فيها أطراف القصة. ولأن الحاكي الإسباني يمثل طرفًا أساسًا، فقد شمل نفسه بالسياق ليقاسم الفارس العربي نبله ومروءته، وليجعل من مُثُله المسيحية مقدمات لفروسية ابن سراج العربي المسلم. هذه الحكاية تحملنا على استدعاء غير قليل من نماذج التأثير المزدوج بين الآداب الأندلسية والإسبانية، وهو موضوع قادم إن شاء الله.
- د. صالح عيظة الزهراني