د. محمد عبدالله العوين
منذ صدرت «التوأمان» أول رواية سعودية لعبد القدوس الأنصاري 1349هـ إلى أن صدرت عام 1414هـ «شقة الحرية» لغازي القصيبي لا يمكن أن يجد المتأمل في نتاج خمسة وستين عاما بما مر به من أطوار ضعف وقوة وغزارة وقلة ما يدين كاتبا أو كاتبة بنية مبيتة وسبق قصد وترصد تدوين حالة من الانفلات الأخلاقي بصوره المختلفة في عمل روائي مخصوص أو يكاد يكون مخصوصا لهذا الغرض، دعك من لفتات أو إشارات عابرات ليست غاية؛ بل تأتي لمامًا في السياق؛ كما هي في «لا ظل تحت الجبل» لفؤاد عنقاوي، أو في بعض روايات عبد السلام هاشم حافظ، أو سميرة خاشقجي، وهي عند الأول متعة ظاهرة في التوصيف والتجسيم، وعند الثانية عاطفة حب شفافة لا تصل إلى وصف مثير، ولست هنا بصدد إصدار أحكام نقدية فنية على هذه الأعمال الروائية؛ ففي بعضها ضعف فني بين لا يرقى بها إلى أن تكون علامات في مراحل بناء الرواية السعودية، ولأن الحديث في هذه المقالة الموجزة عن ظاهرة التكشف التي فاجأتنا في السنوات الخمس عشرة الماضية بصورة جريئة وغير مسبوقة في أدبنا.
فنحن لا يمكن أن نجد ما يؤاخذ به الروائي أو الروائية خلال العقود الستة الماضية من نشأة الرواية السعودية مرورا بـ «فكرة» لأحمد السباعي و»ثمن التضحية» لحامد دمنهوري، وهو رائد الرواية السعودية الأصيل بحق، ولو تناسينا «التوأمان» لضعفها موضوعًا وضربنا صفحًا عن أسلوبها الأدبي المتقعر المتهالك لكانت الرواية السعودية لم تبدأ في 1349هـ بل في عام 1378هـ بصدور «ثمن التضحية» للدمنهوري متجاوزين «الانتقام الطبعي» لمحمد نور الجوهري التي صدرت 1356هـ لمباشرتها الشديدة ووعظيتها المكشوفة.
ونمر في سياق عرض نصاعة تاريخ الرواية السعودية في الأعم الأغلب من الابتذال والتكشف -إلا ما جاء تلميحًا لا تصريحًا- بـ «غدا سيكون الخميس» لهدى الرشيد، و»عذراء المنفى» لإبراهيم الناصر، و»سقيفة الصفا» لحمزة بوقري و»غدا أنسى» و»لا عاش قلبي» لأمل شطا، أو في روايات محمد عبده يماني وصفية عنبر وعصام خوقير وعبد الله جفري، وغيرهم.
انتهت أو تكاد الرواية السعودية التي تشبه روايات ما قبل 1414هـ، ففي ذلك العام فتح الدكتور غازي القصيبي عالما جديدًا وغير مألوف ولا مطروق عند الكتاب والكاتبات السعوديات بصدور روايته «شقة الحرية» ثم بعدها بروايته «العصفورية» التي يمكن أن تعد جزءاً ثانيًا متمًا للأولى.
لن أقف عند تعالق السيري بالروائي في هذا اللون من الكتابة الحكائية؛ فقد قيل فيه الكثير مما لا أتفق مع من يغض أو يضعف من شأن الفن فيما غلبت عليه روح السيرة ويعلي من شأنه فيما تناسى الروائي وقائعه الذاتية وحلق بعيدًا في عالم خيالي بعيداً عن الواقع، بمعنى تحييد السيرة أو أي مشهد من مشاهدها واجتراح عالم آخر أو بناء خيال مواز للواقع لا يمت للكاتب بصلة. ولدي على هذه القسوة النقدية تحفظ شديد؛ فما من خيال روائي إلا ويعود إلى الواقع والكاتب جزء منه صغر شأنه أو كبر وقل أو ضعف حضوره؛ وإنما العبرة بحسن الصياغة وجودة التوظيف للعناصر الفنية الروائية لتتغلب على مباشرة السيرة وتخفي واقعيتها المحضة.
لقد كانت «شقة الحرية» فتحا جديدا في المسكوت عنه أو المحظور أو التابو الذي طالما تهيب الخوض فيه أو حتى الاقتراب منه الروائيون السعوديون، وإن كان هذا الباب مشرعًا على مصراعيه لدى روائيين عرب في مصر ولبنان والمغرب؛ كما هي عند إحسان عبد القدوس في «الوسادة الخالية» و»لا أنام» و»أنف وثلاثة عيون» وعند محمد شكري في «الخبز الحافي» وغيرهما. يتبع