د. حمزة السالم
«ربع هوننا» مُصطلح عند أهل نجد يطلقونه على من اعتاد أن ينقض اتفاقياته الشفهية قبل تمامها أو توثيقها. وقد كان هذا قديمًا. أما اليوم فهذا النوع من الناس قد أصبح نادرًا عزيزًا في الديار السعودية كلها، فضلاً عن الديار النجدية. فبالأمس كان الرجل يعتذر - عند تهوينته - عن عدم إتمامه الصفقة أو الاتفاق المتفق عليه شفهيًا - ولعل ذلك كان بسبب صغر المدن وحتمية التلاقي بين أفراد المجتمع. أما اليوم، فلم يعد «التهوين» أي تغيير الرأي هو مشكلة السعوديين. ولم يعد الاعتذار مطلبًا مأمولاً منهم. فغالب السعوديين اليوم لا يكتفون فقط بنقض اتفاقياتهم التي وثقوها بالوعود والتأكيدات الكلامية غير معتذرين ولا مكترثين، بل ولا حتى يقومون بإعلام الطرف الآخر «تهوينتهم». (وهذا فيه من سوء الأدب ما فيه، ومع ذلك يكاد أن يصبح عرفًا!).
وهناك ما هو أسوأ من هذا، وقد أصبح عادة منتشرة عندنا. فقد أصبح البعض يتحذلق فيقول «خلنا نشوف وش عنده»، بينما هو لا نية عنده بتاتًا في عقد أي اتفاق حول الموضوع الذي يُراد من الطرف الآخر طرحه. وهناك ما هو أرخص وأقبح. وهو ما اشتكى منه بريطاني وأمريكي مسلمان جاءا إلى ديارنا بعد إسلامهما ثم وليا هاربين بعد حين من الزمن. فقد كان بعض الوضعاء يطلب منهما وضع مقترحات وعروض لمشاريع خدمية استشارية معينة، ثم يأخذ العرض والفكرة لينفذها عن طريق شركات أخرى.
وأقول: بصدق الكلمة ووضوح الأهداف والنوايا والوفاء بالوعود والالتزامات تتميز الشعوب والأمم. فترى بعضها يرتقي حتى لا يعود يضره ما يفعل. وترى بعضها الآخر ينحدر حتى لا يعود ينفعه ما يفعل. وإلى هذا أشار قرين سبان في مذكراته الأخيرة في أن الثقة بالكلمة، والالتزام حتى بالإشارة في صفقات بمليارات الدولارات في أسواق المال الأمريكية، قد تركت أثرًا لا يستهان به في الثقة الدولية بها. فمهما تلقت الأسواق من صدمات، ومهما حدث من تجاوزات فإن هذه الثقة وهذا الالتزام الكامل من المتعاملين بهذه المليارات من الدولارات دون عقود ولا شهود هي المصداقية التي تمتاز بها أمريكا عن الصين وغيرها - على حد قوله.
وقد يقول قائل إن الواقع قد أثبت صحة كلامه. فما زالت أمريكا ودولارها وسنداتها، وأسواقها المالية هي ملاذ العالم جميعًا خلال الأزمة المالية الحالية رغم أنها هي سبب الأزمة ورغم أنها هي التي هندست الأدوات المالية التي امتصت التريليونات من أنحاء العالم لتصب في الاقتصاد الأمريكي، والذي اقتات النمو الاقتصادي عليها وعلى أثر مضاعفاتها لسبع سنين تقريبًا.
وأقول: إن الأمانة المطلقة لا وجود لها تقريبًا في المجتمعات البشرية، ولكن تقاس الأمور نسبةً وتناسبًا إلى شبيهاتها وأمثالها. فعلى قدر الفساد الموجود في التعاملات عندهم إلا أنها استثناء وليس أصلاً، ولم يصل إلى حد أن يصبح ثقافة مجتمعية كعندنا. فعندنا فإن النقض وعدم الالتزام هو الأصل، والاستثناء أن تسمع ردًا شارحًا أو معتذرًا من ناقض لوعد أو اتفاق.
قبيحٌ هو نقض العهود والاتفاقيات، ولكن الأشد قبحًا هو أن يجمع إليه سوء التبليغ بالخلف والنكوص عن طريق عدم الرد على الاتصالات والمكاتبات. ولعمرك قد عز اليوم جدًا من يصح فيه قول العرب: «وَوَعدُكَ فِعلٌ قَبلَ وَعدٍ لِأَنَّهُ... نَظيرُ فَعالِ الصادِقِ القَولِ وَعدُهُ».