د.عبد الرحمن الحبيب
ما هي أخطاء التفكير؟ مفكرون يرون أنها التفكير العاطفي على حساب التفكير العقلاني، وآخرون يقولون إنها التفكير الذاتي مقابل الموضوعي.. ثمة اتفاق بسيط بأن الخطأ الأساسي ينبع من التفكير اللاعقلاني.. لكن حتى التفكير العقلاني، كما سنجد، يقع في أخطاء فادحة.
في خاتمة كتابه «فن التفكير بوضوح» يقول المؤلف رالف دوبلي: «وضعت في الكتاب قائمة بحوالي مئة خطأ في التفكير دون الإجابة عن: ما هي أخطاء التفكير؟ ما هو التفكير غير العقلاني؟ لماذا نقع بهذه الفخاخ؟» سأستعرض مع بعض الإضافات التوضيحية فكرة خاتمة الكتاب.
هناك نظريتان في تفسير اللاعقلانية: حارة وباردة. الحارة قديمة جداً نجدها في تشبيه أفلاطون: فارس يقود خيولاً جامحة؛ الفارس يمثل العقل، والخيول تجسد العاطفة. العقل يروِّض المشاعر، وإذا فشل، فإن اللاعقلانية تنطلق بحرية. مثال آخر: المشاعر مثل الحمم المحتدمة، والعقل يمكنه إبقاء غطاء عليها، لكن بين حين وآخر الحمم اللاعقلانية تثور... هذه النظرية استمرت لقرون.
أما في الزمن الحديث فمن أهم الأطروحات ما جاء بها فرويد بأن «الأنا» العقلانية، و»الأنا العليا» الأخلاقية تتحكمان في «الهو» المندفعة. هذه المصطلحات الثلاثة اخترعها فرويد للنفس البشرية ليصف فكرته عن التقسيم بين العقل الواعي والعقل اللاواعي، والعلاقات الديناميكية بينهما، فالأنا (غالبا ما تكون واعية) تتعامل مع الواقع الخارجي، والأنا العليا (واعية جزئياً) تمثل المحاكمة الأخلاقية الداخلية، في حين تمثل «الهو» اللاوعي وهي مخزن الرغبات والغرائز اللاواعية والدوافع المكبوتة. نظرية جميلة لكن الدراسات الحديثة أظهرت عدم علميتها.
النظرية الحديثة لا تزال غضة... فبعد الحرب العالمية الثانية جرت العديد من الأبحاث لتفسير التفكير اللاعقلاني للنازية. لكن العواطف والمشاعر كانت نادرة في الفكر النازي؛ حتى خُطب هتلر النارية كانت عبارة عن أداء متقن، ولم تكن انفجارات عاطفية بل كانت حسابات باردة صارمة أنتجت الجنون النازي. ومثل ذلك ينطبق على ستالين والخمير الحمر.
في الستينات بدأ الباحثون بالتخلص من أفكار فرويد لاختبار التفكير والقرارات والأفعال بمنهج علمي منتجة النظرية الباردة للاعقلانية، وخلاصتها: أن التفكير العقلاني نفسه ليس نقياً بل عرضة للخطأ. وهذا يتعرض له الجميع، فحتى الأذكياء جداً يقعون في فخاخها. لكن لماذا نحن نخطئ حتى في التفكير العقلاني؟ لماذا الدماغ لا يقوم بوظيفته بشكل كامل مثل كافة أعضاء الجسم كالقلب والرئة؟
يجيب العلماء بأن التفكير هو عملية بيولوجية. الإنسان البدائي بطبيعته صياد ولاقط ثمار، تفكيره بسيط ومستقر متناغم مع البيئة المحيطة ومتطلباتها، كان يعيش في مجموعة صغيرة متضامنة، ودماغه مجهز لتلك الظروف، لم يكن هناك تطور تكنولوجي متسارع أو شبكة اجتماعية معقدة. إنما التطور الصادم حدث قبل نحو عشرة آلاف سنة عندما انتقل بشكل حاد إلى مجتمع زراعي مع إنتاج المحاصيل وتربية الحيوانات ونشوء القرى ثم المدن، وتطور التجارة والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية المعقدة. منذ ذلك الحين بقي القليل في البيئة المحيطة تستوعبه أدمغتنا بشكل تلقائي غريزي.
الآن، عندما تمشي في سوق تجاري أو تتصفح الإنترنت فأنت تقابل أناساً ومعلومات في غضون دقائق يفوق ما يقابله الإنسان البدائي طوال فترة حياته. الدماغ البشري لم يجهز لاستيعاب ذلك، فكل شيء صار معقداً أمامه وصار غامضاً. الدماغ البشري مهما كان صاحبه عقلانياً فهو غير قادر على التفكير الواضح بشكل كامل.
دماغ الإنسان البدائي مجهز للفعل السريع (الغريزي) أكثر من التفكير المتأني. ردة الفعل السريعة كانت مسألة مصيرية بينما ردة الفعل الهادئة (العقلانية) قد تكون قاتلة. لو كنت ذلك الإنسان البدائي تمشي في غابة مع رفيقك الذي هرب فجأة، فستهرب معه دون أن تسأل هل هرب من أسد أو من حيوان وديع. المساءلة العقلانية هنا قد تقضي على حياتك، بينما الهرب السريع لن يكلفك سوى بضعة سعرات حرارية. نحن أحفاد هذا الإنسان البدائي الذي يهرب دون تفكير عندما يصرخ أحد في المجموعة. لكن هذا السلوك غير نافع في الحياة الحديثة، إنما المشكلة أنه متأصل في أدمغتنا.
استكمالاً لهذا التفسير البيولوجي، أظهرت الدراسات في التسعينات أن أدمغتنا مجهزة لنشر أفكارها أكثر من بحثها عن الحقيقة. بمعنى آخر نحن نستخدم أفكارنا للإقناع. فمن يستطع إقناع الآخرين يؤمن سلطته وبالتالي يصل إلى الموارد والاستحواذ عليها.
آخر التفسيرات، تقول إن القرارات البدهية السريعة حتى وإن كانت تفتقر للمنطق هي أفضل في ظل ظروف معينة. في العديد من القرارات، نحن نفتقر للمعلومات الضرورية، فنضطر للاختصار والبديهيات. نتخذ القرار، وبعد ذلك نبحث عن مبررات له. نحن لا نفكر مثل العلميين في مختبراتهم الذين يبحثون موضوعياً في الأشياء بل نفكر مثل القانونيين الذين يصيغون حججاً تبرر سلوكاً سابقا.
الأهم، هو التفريق بين التفكير البديهي (الحدس) والعقلاني. كلاهما لديه التطبيق المنطقي. التفكير البدهي سريع تلقائي سهل، بينما التفكير العقلاني بطيء متطلب معقد.. وتظل المشكلة أننا لا يمكن أن نتحكم كاملاً بمشاعرنا عبر التفكير العقلاني، ومن يظن أنه يستطيع فهو منخدع مثل الانخداع بأن شعرك رأسك الأصلع سينمو بمجرد إرادتك بأن ينمو.