د. عيد بن مسعود الجهني
النيابة العامة بتعريف مبسط ممثلة ونائبة عن المجتمع، ومن اختصاصاتها تحريك الدعوى الجنائية، وإجراء كل التحقيقات بنفسها أو ممن تنتدبه لذلك من سلكها القضائي، ومن حقها طلب ندب قاضي للتحقيق أو تكليف المتهم أو المتهمين بالحضور أمام المحكمة الجنائية المختصة.
وهي النيابة تتابع سير الدعوى الجنائية أمام المحاكم المختصة حتى صدور الحكم فيها، وهذا اختصاص للنائب العام الذي من حقه مباشرة كل اختصاصاته بنفسه أو إسنادها إلى أحد معاونيه لمباشرتها نيابة عنه.
وفي المملكة سجل التاريخ القضائي نقلة مهمة في تاريخ هيئة التحقيق والإدعاء العام بصدور الأمر الملكي م-240 تاريخ 22 رمضان المبارك 1438هـ الذي نص على تعديل مسمى هيئة التحقيق والإدعاء العام لصبح (النيابة العامة) ورئيسها (النائب العام) اعتبارًا من تاريخ صدور الأمر الملكي، وهذا يؤكد أن الدولة تسير في خطى ثابتة في تطوير أجهزتها القضائية والإدارية بأسلوب مرن يحقق الأهداف المتوخاة.
هذا الاسم الجديد جاء بعد أن اكتسبت هيئة التحقيق والادعاء العام خبرة طويلة في ميدان القضاء منذ تأسيسها بالأمر الملكي رقم م/56 تاريخ 24 شوال 1409هـ، ومع تطور الهيئة في مجال اختصاصاتها التي نص عليها نظامها الصادر بالأمر الملكي عام 1414هـ، صدر المرسوم الملكي رقم م/4 تاريخ 5 محرم 1433هـ الذي نص على نقل اختصاص هيئة الرقابة والتحقيق المتعلق بالتحقيق والادعاء العام في الجرائم الجنائية التي تباشرها هيئة الرقابة والتحقيق كالرشوة والتزوير والجرائم المنصوص عليها في المرسوم الملكي رقم م/43 تاريخ 29-11-1377هـ، إلى الهيئة.
هذا تطور قضائي مهم يتمشى مع القواعد والمبادئ التي تأخذ بها الدول المتقدمة، التي يعتبر فيها النائب العام رأس السلطة في النيابة العامة، ويتمتع بمسئوليات جسام مسئول أمام رئيس السلطة التنفيذية مباشرة، وهذا ما نص عليه الأمر الملكي (ترتبط النيابة العامة مباشرة بالملك، وتتمتع بالاستقلال التام، وليس لأحد التدخل في عملها).
ولا شك أن هذا يضفي على النيابة العامة ورئيسها قوة دافعة في أداء مهامها، فالنائب العام مسئول أمام الملك مباشرة، وليس أمام وزير العدل كما يعتقد البعض، ومنصبه قضائي بحت، وهذا تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلطات، طبقا للشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية، وقد نص الأمر الملكي على ذلك صراحة، وبذا فإن النائب العام يمارس كل سلطاته باستقلال تام بما يتفق مع القواعد والأحكام الشرعية التي تطبقها المملكة التي دستورها القرآن الكريم والسنة المطهرة.
المدعي العام في معظم دول العالم من مهامه السهر على تحقيق العدل والأمن في المجتمع، وهذا مفهومه الشرعي والقانوني، وإجراء كل التحقيقات بشكل مستقل وتوجيه التهم المستندة إلى دليل واضح لا لبس فيه مشمول بالشفافية والدقة في التحقيقات والمحافظة على سرية وخصوصيات المتهم أو المتهمين.
ومن قراءة بيان النائب العام وعضو اللجنة العليا لمكافحة الفساد الشيخ سعود بن عبد الله المعجب، يتضح أن البيان صيغ بحرفية شرعية وقانونية، فرغم أنه بيان مقتضب إلا أنه أوجز بشكل لا يخل بالمضمون كل المعطيات والحقائق التي يرغب المجتمع الذي تدافع عنه النيابة العامة العلم بها، باعتبار النائب العام ينوب عن المجتمع كافة.
البيان حدد حتى تاريخ صدوره (الخميس 20 من شهر صفر) عدد الأشخاص الذين جرى توقيفهم والذين تم إطلاق سراحهم لعدم توفر أدلة كافية ضدهم وهذا يدل على أن النيابة العامة بجهازها القانوني والإداري تتحرى الدقة في أي بيان يصدر عنها.
كما أن القراءة الفاحصة لبيان النائب العام من النواحي القضائية والإدارية والمالية تبرز أن هذا الجهاز الهام صاحب الشهرة في دول العالم اعتمد على تحقيقات وتحريات استمرت على مدى سنتين للوقوف على حجم الممارسات الفاسدة والتي استمرت لعقود عديدة تنهب الأموال العامة التي قد تكون قيمتها المحتملة أكثر من (375) مليار ريال طبقا لما تبين للنيابة من خلال التحقيقات الأولية، ومفهوم (عقود عديدة) ينقلنا إلى القول (معتقدين) أن التحقيقات قد تشمل زمن طفرة أسعار النفط في أواخر السبعينيات.
حقيقة قانونية هنا جاءت ببيان النائب العام أكدت أن النيابة مستمرة في جمع المزيد من الأدلة لإثبات الوقائع في القضايا المنسوبة للموقوفين وهذا يؤكد مدى قدرة هذا الجهاز الهام في الانتقال إلى المرحلة التالية من التحقيقات مع المشتبه بهم.
وهذا في مضمونه القانوني أن من حق النائب العام تتبع المتورطين في قضايا فساد داخل البلاد وخارجها، سواء أكانت الأموال التي تم الاستيلاء عليها أصولا ثابتة أو منقولة أو غيرها، كالأسهم والسندات.. الخ، تم شراؤها من أمول سرقت من المال العام، فإن من حق النيابة العامة ملاحقة تلك الأموال لإعادتها للخزينة العامة.
كل هذا يضع مسئوليات كبيرة على هذه الجهة القضائية المهمة التي ولدت حديثا، فالبحث والتحري والتحقيقات.. الخ تحتاج إلى دعم هذا الجهاز بخبراء في الشريعة والقانون والإدارتين المالية والإدارية متسلحين بالمؤهلات والخبرات الوطنية ووكلاء نيابة ومساعدين ومعاونين ومحامين متخصصين في كل القضايا الجنائية ومنها الاستيلاء على المال العام والسرقة والرشوة والتزوير.. الخ.
وبهذا العدد من الكفاءات يستطيع جهاز النيابة أن يضطلع بالمسئوليات الملقاة على عاتقه في العقود الماضية والزمن الحاضر والمستقبل، فالتصدي للفساد وتيرته مستمرة، وإن كانت حدة قطاره السريع بعد أن بلغت (الثريا) ستعود إلى الانحدار سريعا بسبب الإجراءات القانونية والإدارية الشجاعة الأخيرة لكنها لن تختفي لتبلغ صفرا.
إن التكييف القانوني للبيان يبرز أنه حفظ لكل الموقوفين حقوقهم الشرعية والقانونية ومنها عدم الكشف عن أية تفاصيل شخصية لضمان تمتعهم بالحقوق القانونية الكاملة، وزاد البيان طالبا احترام خصوصيتهم خلال خضوعهم للإجراءات القضائية.
وإذا كان النائب العام ينوب عن المجتمع في تحريك الدعاوى الجزائية والادعاء فيها أمام المحاكم المختصة ضد مرتكبي الجرائم، فإن من حقه أن يسند ذلك إلى وكيل أو وكلاء نيابة عنه، فإنه على الجانب الآخر من حق المتهم أن يتساوى في الحقوق والضمانات مع النائب العام أو نوابه فمن حقه تعيين وكيل أو محام عنه وقت ما أراد.
وهذا هو عنوان إقامة العدل الذي يحمي حقوق جميع الأطراف المعنية في القضايا الشرعية والقانونية التي ترفع أمام المحاكم المختصة ولا فرق بين المتقاضين فالكل أمام القضاء سواء، وأخذا بالمبدأ الشهير المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وقد يتساءل البعض عن طرق الإثبات في جرائم الاستيلاء على المال العام، والإجابة أن طرق الإثبات واحدة في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي لجرائم الفساد والرشوة، والجرائم الأخرى، ومنها الإقرار فالاعتراف هو الحاسم في قطع النزاع، والشهادة أحد الطرق المهمة في الإثبات في الفقه الإسلامي، كما أن الكتابة طريق من طرق الإثبات، ومن حق القاضي المختص التأكد من سلامة الأوراق بالطرق المناسبة، ومن حقه أن يستند إليها كأحد طرق الإثبات في إصدار حكمه، ومن حقه كذلك الاستناد في حكمه على القرائن كإحدى وسائل الإثبات.
وإذا كان من حق النائب العام أن يستند إلى كل طرق الإثبات، فإن من حق المتهم أو المتهمين أن يدافعوا عن أنفسهم بالمثول بشخصهم أمام القضاء المختص أو عن طريق وكلائهم، ومن حقهم الاستناد إلى تلك الطرق تحقيقا للفوز ببراءتهم إذا كانوا فعلا غير مدانين بقضايا فساد أو رشوة أو غيرها وينطبق ذلك على الراشي والمرتشي والرائش.
ويبقى القول إن ميلاد النيابة العامة في بلادنا خطوة مهمة جاءت في الوقت والزمن المناسبين بعد أن تطورت هيئة الادعاء العام وقوي عودها.
وبهذا فإن المملكة تصبح واحدة من الدول في المنظومة الدولية التي تأخذ بهذه الفلسفة القانونية التي تتفق نصا وروحا مع الشريعة الغراء والفكر القضائي المتطور الذي يحمي المجتمع كافة والمال العامة خاصة.