د. محمد عبدالله العوين
مهد القصيبي الطريق لغيره ممن لديه موهبة أو شيء من موهبة روائية لطرق الأبواب المغلقة والحديث الشفاف العميق عن خلجات النفس وما يعتورها في لحظات الضعف من هزائم وانكسارات، وقد كان في شقة الحرية أقرب إلى السيري منه إلى الروائي الممعن في الخيال إلا أنه وجد نفسه روائيًا ماهرًا وقد مرن قلمه على التصوير ورصد التفاصيل وإقامة معمار البناء الفني وصناعة الحبكة بما تطلبته بأقل مقاييسها الفنية في سيرته الروائية فنحا في روايته الثانية «العصفورية» المتممة للأولى إلى اصطناع عالم خيالي خالص بعيد كل البعد عن الواقع إلا في إسقاطاته البليغة، معتمدًا على توظيف أدوات الرواية الفنية المتقنة من تصاعد بناء الحكاية ودقة الوصف والحوار والاسترجاع «الفلاش باك» وجعل من بطله البروفسور «بشار الغول» ضحية الجنون؛ فحمل عقله الفارط مغامرات بطله وخيالاته وأحلامه ونجاحاته وإخفاقاته في علاقاته النسائية مع العربيات والأوروبيات والأمريكيات والصغيرات والمسنات على السواء وفي مراحل عمره كلها؛ حين كان شابًا يافعًا، ثم كهلاً، ثم حين دخل إلى مراهقة الشيخوخة، ولأنه بروفسور وصاحب رؤى سياسية كان للسياسة العربية حظ وافر في إسقاطات جنون بطله على الواقع السياسي العربي.
وأجد شيئًا من صلة خفية بين بطل «العصفورية» وبطل «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، فهما متعلمان تعليمًا متفوقًا، وناقمان على واقعهما، ومغامران في علاقاتهما النسائية، ومنكسران في المشهد الأخير لهما بصورة تدعو إلى رثاء البطل المثقف المهزوم، وكأن هزيمة البروفسور عند غازي أو «مصطفى سعيد» عند الطيب تصوير لخيبات أحلام المثقف الذي يصاب بالجنون في «العصفورية» فينتقم من انكساراته بالإمعان في ممارسة الجنس مع كل النساء من كل جنس ولون، ويعود «مصطفى سعيد» في «موسم الهجرة إلى الشمال» من غربته عند مستعمرة في بريطانيا منكسرًا مهزومًا أمام حضارة المستبد الذي ذهب إليه معجبًا وعاد منه حانقًا بما وقر في وجدانه عنه من ازدراء لشعوب العالم الثالث، وقد عبر عن انتقامه من الغربي المستبد بانتهاك أعراض نسائه «جئتكم غازيًا مشهرًا سيفي» وبعد فصول طويلة من عدم التلاقي بين الثقافتين إلا من خلال أداء الجسد المنتقم يعود إلى جذوره فيجد الأمان المفقود في قرية آبائه وأجداده الهادئة الوادعة.
ونجد شخصية المرأة عند تركي الحمد في ثلاثيته «أطياف الأزقة المهجورة» علاقة عاطفية رومانسية قبل العشرين عند بطله «هشام العابر» في «العدامة» ثم علاقة جنسية فائرة متمردة طائشة غير محسوبة العواقب بعد العشرين في مرحلة الدراسة الجامعية في «الشميسي» ثم تغيب إلى درجة التلاشي في مرحلة الصراع السياسي والأيدلوجي في «الكراديب» ونحن معنيون بتصويره المفرط لعلاقات «بطله» بالنساء وكيف اندفع الكاتب اندفاعًا فاق القصيبي؛ فأوغل في التقاط المشاهد الجنسية مع فلانة وعلانة في منعطفات رمال خريص «الله ياغربلك ياهشام وين جبتنا في هالطعوس»! وبعد حوار كهذا يصف ما لا يمكن الحديث عنه بحال، فيعبر عن تجربة بطله الأولى مع المرأة فلا يجد ما يمنعه من رسم دقائق تفاصيل التجربة بإسهاب وتوسع ووصف دقيق لم يجرؤ كاتب من قبله على الخوض فيه.
وهو ما نجده أيضًا في وصفه علاقات جاره بزوجته حين خاتل هشام العابر النظر إليهما في ليالي الصيف المقمرة بجوار سطوح متقاربة، ووصف دقيق كهذا في الحالتين لم يضف قيمة فنية لتصاعد الأحداث وإنما أثقل كاهل الرواية بما أوحى بشغف الكاتب بما وصف وتلذذه باستعادة تلك المشاهد، أو ربما كان ينتظر ارتياحًا من قرائه بما صنع على حساب القيمة الأخلاقية المهدرة باسم الأدب.
وإذا كان ما سبق تمهيدًا من الرجال؛ فإننا نجد اندفاعًا كبيرًا نحو التكشف عند النساء أشبه ما يكون بـ «التمرد» بعد أحداث 11 من سبتمبر افتتحته رجاء الصانع بروايتها «بنات الرياض» التي صدرت 1423هـ.
يتبع الجزء الخامس الأخير.