د.فوزية أبو خالد
هناك مواضيع تلح على البال وقت الكتابة أو في مواقف تستحضرها إلا أنه كثيرا ما يجري تأجيلها وبعضها يسقط سهوا بمرور الوقت أو بتراكم المشاغل والمستجدات على أهميتها. وبعضها يصدر أصواتا خافتة في الضمير أو حفيفا معاتبا كلما احتكت أغصان الأصابع برياح لوحة المفاتيح.
ومن تلك المواضيع أي من قائمة المواضيع المؤجلة سأنتخب اليوم عدة مواضيع تشعل أسئلتها رياح التحولات التي نشهد إقبالها على المجتمع والدولة في هذه المرحلة. أتناول كل موضوع من هذه المواضيع بشكل مستقل حسب العنوان المعطى وأطرحها بصيغة مقال قصير يخص كل منها.
المحكمة والشهود وتطور البنية العدلية
ظننت أنه بالتطور التقني وتطور البنية التحتية الملاحظ والمشهود به لوزارة العدل أن موضوع استحضار شاهد من مايسمى شعبيا بـ»نادي السعاة» ليشهد في موضوع لاناقة له ولاجمل الا الفزعة أو «التسبب أي الترزق» قد أنقرض مع إنقراض طاولات «العرضحالجية» التي كانت مظهرا من مظاهر المحيط الخارجي للبيئة العدلية, خاصة بعد انتقال معظم مرافق العدل إلى مباني جديدة وأخص بالذكر المحاكم بمنطقة مدينة الرياض ممن أنتقلت لمقار جديدة شمال المدينة وبعد تعدد تخصصات المحاكم، تجارية، مرورية، أحوال شخصية وأسرية وبعد إدخال الخدمات الإلكترونية, غير أن وجودي مؤخرا في ذلك الفضاء العدلي قد جعلني أرد الاعتبار لتلك المقولة التقليدية من مقولات علم الاجتماع التي تقول إنك لا يمكن أن تقود عملية تطوير جذرية بنفس أنماط السلوك القديمة وبنفس بنية النظام وبنفس منطق علاقاته الهرمية.
فالقضاء بحد ذاته بما تعبر عنه وزارة العدل والمحاكم ليس مجرد دائرة من الدوائر الحكومية البيروقراطية العادية التي يكتفى في تطويرها والنهوض بها ببعض اللمسات التجديدية هنا وهناك في المباني أو بعض الأنظمة الإدارية وبعض آليات العمل الإلكترونية, بل إن القضاء في ذاته وفي موضوعه وفي أوعيته الميدانية وفي آليات عمله هو سلطة مستقلة مثله مثل السلطة التنفيذية للجهاز الحكومى والسلطة التشريعية المخولة من المجتمع والدولة كالبرلمانات ومجالس الشورى المفعلة. والقضاء بهذا المعنى هو رمز لسلطة العدل في المجتمع والدولة المعنيين, ولذا فإن مسألة تطويره تعني تطوير في الشكل وفي المضمون. وهذا يتطلب تطوير المنظومة المرجعية للأحكام القضائية بوجود مدونات مكتوبة محددة لامجال فيها لاجتهادات القضاة في أحكام شرعية وقانونية واضحة ومحددة, مثلما يتطلب تطوير منظومتي الإدعاء والدفاع والحكم توخيا للتمكين العدلي بين المتقاضين.
ولعل فتح المجال لخدمات نسوية على مستوى مساند بعد, سيساهم في خلق مناخات أكثر فعالية ومنها الحد من اللجوء لشهود مستعارين أو مستأجرين خاصة فيما يخص قضايا المواطنات من النساء.
قضايا العقوق
لا أملك إلا أن أتساءل كلما قرأت أو سمعت عن والد أو والدة أو والدين ممن يقومون برفع قضايا عقوق على ابن أو بنت من أبنائهم، ما إذا كانت مثل هذه القضايا تنتمي حقا لمجتمعات تعيش في القرن الواحد والعشرين. وترتفع وتيرة السؤال خاصة حين أسمع أو أقرأ عن تفاصيل تلك القضايا . فملخص الكثير منها ولا أعمم يعطي صورة أننا نعيش في مجتمع أبوي يريد فيه الأب / الأم فرض وصايته/ها على الأبناء والبنات خاصة فيما يخصهم من شؤون وقرارت حتى بعد بلوغهم عمر الرشد. فنادرا ماتكون قضايا العقوق بحسب متابعاتي بسبب عقوق بمعنى التنكر لاسمح الله للوالدين في صلة الرحم والصحبة الحسنة والإلتزام المالي تجاههما. بينما الكثير منها يكون محاولة من الوالدين أو أحدهما فرض حمايته الزائدة على من هو عاقل راشد، باستخدام السلطة الأبوية ولو عن طريق الاستنجاد بالقضاء لمساندته بفرض هذه السلطة الأبوية أو الحماية الزائدة التي يخول فيها الأب/ الأم لنفسه الحق بأنه يعرف مصلحة ابنه أو ابنته اكثر من الأبناء أنفسهم في اختيارات شخصية كالزواج أو العمل أو محل الإقامة أو حتى كيفية إدارة حياته/ها.
وهنا أوجه سؤالا أبعد من هذه الحالة، أو تلك وهو: أليس في تحديد سن للرشد لكل من الرجل والمرأة البالغ العاقل الحر الآهل والاعتراف فيه بجملة مدروسة محددة من الحقوق والواجبات التي تناط بهذا العمر ماقد يحفظ على الجهات القضائية الوقت والجهد. وبما يؤسس لمجتمع راشد في إدارة الفرد لشأنه الشخصي مع حفظ الحقوق للوالدين بطبيعة الحال، ولكن دون تفريط فيما يمكن أن أسميه الحقوق المدنية للمواطن التي تناط عادة بسن الرشد في مجتمعات العالم الرشيدة.
قضايا النسب
والتساؤل أعلاه ينطبق أيضا على تلك القضايا المشتتة لشمل الأسر المشعلة لنار الفرقة والصراع القبلي وصراع فئات المجتمع على اختلافها القبلي، ألا وهي قضايا زيجات عدم تكافؤ النسب. فالأصل في الدولة العصرية والمجتمعات المعاصرة أن المواطنين متساوون أمام القانون وفي عين القضاء في الحقوق والواجبات ووظيفة القضاء التأكد من عدم اختلال الميزان العدلي في واجبات المواطنة وحقوقها وبين أفراد المجتمع بكل أطيافه وعلى تعدد مروحته الاجتماعية أو المرجعية، فهل لا يشكل استقبال القضاء لقضايا زيجات عدم تكافؤ النسب (والأدهى عند الحكم بنقض الزيجات التي تمت عن تراضي زوج وزوجة يعيشان تحت سقف واحد بعقد شرعي، وقد يكون بينهما أطفالا), إخلالا عميقا بالتصور المدني لحقوق المواطنة.
ومرة أخرى نعود لمقولات علم الاجتماع في هذا الشأن أي شأن تحول المجتمعات من طور لطور فنرى أن الجدية في بناء دولة ومجتمع بمقايس التقدم في القرن الواحد والعشرين تقاس بمدى تمتع المواطن بحقوق المواطنة المدنية كإنسان /إنسانة راشد عاقل حر قادر على السلوك العقلاني وعلى الخيارات العقلانية في فضاء وطني يحترم إنسانيته وقراراته ورأيه في شأنه الشخصي كما في الشأن العام.