خالد بن حمد المالك
أوفى الرئيس الأمريكي ترامب -مع شديد الأسف- بوعد قطعه على نفسه خلال الانتخابات الرئاسية حين وظَّف قضية القدس كإحدى أوراقه المهمة لكسب الناخب الأمريكي خلال مشواره إلى البيت الأبيض، ولم يتأخر كثيراً في تنفيذ وعده، إذ سارع إلى الإعلان عنه ولما تبلغ رئاسته لأمريكا بعد سنتها الأولى، في تصرف أحمق، وانحياز غير مسبوق لإسرائيل، وتصعيد غير مبرر للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وتخلٍ واضح عن موقع أمريكا كراعية للسلام بوصفها دولة عظمى.
* *
قرار الرئيس ترامب يفتقر إلى الحكمة والكياسة والدبلوماسية المطلوبة، وإنكار لحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وعاصمته المقدسة، وتخلٍ عن قرارات الشرعية الدولية التي وافقت عليها الولايات المتحدة الأمريكية في فترات حكم عدد من الرؤساء الذين سبقوا الرئيس ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض، ولكنهم جميعًا لم يعترفوا على ما أقدم عليه الرئيس الحالي من إنكار للحق الفلسطيني في القدس واعتبارها العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل.
* *
ومن المؤسف أن أمريكا وضعت نفسها الراعية الوحيدة دون أن تسمح لغيرها بالمشاركة في عملية السلام الفلسطيني - الإسرائيلي التي أجهضتها إسرائيل، وإذا بالرئيس ترامب يكشف بقراره هذا أن واشنطن لم تكن على مسافة واحدة في التعامل مع خيار قيام الدولتين، وإنما كانت تتجاوب مع السياسة الإسرائيلية في المماطلة، ورفض القرارات الدولية، وعدم القبول حتى بما تم الاتفاق عليه في أوسلو ومدريد والبيت الأبيض بين زعماء إسرائيل وفلسطين.
* *
وهذا القرار الخطير بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف الأمريكي بها عاصمة لإسرائيل، ينطوي على مخاطر كثيرة أبرزها تخلي أمريكا عن دور كان مناطاً بها للوصول إلى سلام عادل في الشرق الأوسط بعد إتمام عملية السلام، وإقامة دولتين واحدة إسرائيلية وأخرى فلسطينية وعاصمتها القدس على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967م، فإذا بالرئيس الأمريكي يحرق كل أوراق القبول الفلسطيني والعربي والإسلامي بدورها كراعية عادلة ونزيهة لحل النزاع التاريخي السيادي بين فلسطين وإسرائيل.
* *
ومع أن هذا القرار قد قُوبل بالرفض بين مختلف دول العالم، ولم يرحب به سوى إسرائيل، ودول أخرى محدودة لم نسمع صوتاً تفاعلياً لها أمام هذا القرار الخطير الذي رأى فيه الرئيس ترامب أنه تأخر كثيراً، متجاهلاً كل التحذيرات من أنه بقراره هذا إنما يقوض فرص السلام في المنطقة، خاصة وأنه أمر وزير خارجيته ببدء التحضير الفوري لنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، مع اعتباره أن حل إقامة الدولتين مرهون باتفاق الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على ذلك، وأن من حق إسرائيل أن تكون القدس عاصمة لها، وأن عدم إقرار ذلك على مدى عشرين عاماً مضت جعلنا - كما يقول - أبعد من اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين.
* *
لقد حذرت المملكة على لسان خادم الحرمين الشريفين الرئيس ترامب مبكراً من خطورة الإعلان عن هذا القرار، غير أنه لم يصغ إلى النصيحة والتحذير اللذين سبقا الإعلان، ومضى في خطوته غير آبه بالنصائح التي تلقاها من زعماء آخرين، فجاء البيان السعودي ليؤكد من جديد موقف المملكة الثابت من القضية الفلسطينية بما فيها القدس الشريف، فقد أعلنت المملكة في بيانها عن أسفها الشديد لهذا القرار الذي سبق للمملكة أن حذرت من العواقب الخطيرة إذا ما أقدمت الإدارة الأمريكية على هذه الخطوة الخطيرة غير المبررة وغير المسؤولة.
* *
كما استنكرت المملكة في بيانها صدور هذا القرار، وأعربت عن أسفها الشديد لقيام الإدارة الأمريكية باتخاذ هذا القرار، ففيه انحياز كبير ضد حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والثابتة في القدس التي كفلتها القرارات الدولية ذات الصلة وحظيت باعتراف وتأييد المجتمع الدولي، كما أن هذه الخطوة تمثل تراجعاً كبيراً في جهود الدفع بعملية السلام، وإخلالاً بالموقف الأمريكي المحايد - تاريخياً - من مسألة القدس، الأمر الذي سيضفي مزيداً من التعقيد على النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. وواصل بيان حكومة المملكة: نأمل من الإدارة الأمريكية أن تراجع هذا الإجراء، وأن تنحاز للإرادة الدولية في تمكين الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه المشروعة، وإيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية.
* *
أجل، لقد عبَّر بيان المملكة إثر قرار الرئيس الأمريكي في نقل سفارة أمريكا إلى القدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل عن الصوت العربي المسلم الحريص على حقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، وعلى احتفاظه بالقدس عاصمة لدولته، وباللغة الصريحة الواضحة، تاركاً لغيره الموقف المتفرج، أو المناصر للقضية الفلسطينية إعلامياً دون أي دور تاريخي في دعم إقامة الدولة الفلسطينية، بينما ظلت المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز وإلى اليوم رقماً صعباً وعصياً في القبول بالكيان الإسرائيلي أو الاعتراف به، أو إقامة أي تعاون معه، أو تجاهل القضية الفلسطينية دون دفاع عنها بالمحافل الدولية، وهو ما يقدِّره ويثمِّنه الفلسطينيون الشرفاء لها، فالمملكة هي الداعم الأكبر سياسياً ومالياً لفلسطين وللفلسطينيين، بما لا ينكره إلا عميل أو متواطئ مع إسرائيل.