يحاول هايجدر أن يُفلسف طريقًا إلى اللغة لذا فهو يتساءل: «هل نحن بحاجة لطريق إلى اللغة؟!» وحتى يجيب على هذا السؤال فإنه يتفلسف من خلال محاضرته المطبوعة تحت عنوان (الطريق إلى اللغة)؛ ويبدي في بدايتها انبهاره بتكلم الإنسان «إن القدرة على التكلم تميز الإنسان كإنسان» وجعل «ماهية الإنسان تقوم في اللغة».
وتعقيبا على سؤاله الذي بدأ به محاضرته حول الحاجة لطريق إلى اللغة فإن «الطريق إلى اللغة من حيث هي اللغة هو أبعد طريق يمكن تصوره»؛ وذلك لأننا نجلب اللغة إلى اللغة؛ بمعنى أننا نريد فهم اللغة من خلال اللغة ذاتها؛ وعند هذا فإن المحاضرة تدور حول مقولته «جلب اللغة؛ من حيث هي اللغة؛ إلى اللغة» فذكر اللغة هنا ثلاث مرات؛ وسيأتي لاحقًا هذا القصد من ثلاثية اللغة هنا.
ومن تمركز البشر حول اللغة وتميزهم بها فنحن نتكلم ونحن صامتون عندما نندهش من حادث ما؛ «إنه لا يتكلم ولكنه أيضا لا يسكت».
وينطلق هايدجر من بحث (هومبولت) حول اللغة بعنوان (في اختلاف بناء اللغة البشرية وتأثيره على التطور الروحي للنوع البشري)؛ ويرى أن كل من تكلم عن اللغة وفلسفة اللغة من بعده قد حدده هذا البحث قبولا ورفضا، ويناقش التكلم باعتباره (فاعلية بشرية)؛ وهو عند (همبولت) فاعلية روحية داخل الإنسان، فاللغة عند همبلوت ليست مجرد تواصل لأجل التفاهم بل هي عالمًا حقيقيا يستكنه الروح؛ واللغة هي أهم قوة للروح لتعبر عن ذاتها، بيْدَ أن هايدجر يريد أن يتحول إلى ماهية اللغة في ذاتها وليس بعلاقاتها؛ كعلاقتها بالعالم والروح كما عند هبمولت؛ لذلك يربطها ب(التكلم)، وفي الحديث عن التكلم فإنه يلزمنا استحضار المتكلمين؛ حتى وإن كان هذا المتكلم «قد مضى لكن يمكن أيضا أن يكون قد صدر إلينا من زمن طويل بصفته كلاما ينادينا»؛ وهنا يحضر (اللامتكَّلم).
ويركز هايدجر على (الشق الفاتح) للغة؛ بمعنى البحث في (حدوث اللغة)؛ والشق الفاتح أخذه من الشق في الأرض وحرثها؛ والشق الفاتح هو «رسم حدوث اللغة؛ هيكل الإبانة الذي ينتظم داخله المتكلمون وتكلمهم، المتكلَّم واللامتكلَّم المنتمي إليه انطلاقا من الكلام الذي ينادينا»؛ وهو هنا يستبعد «التكلم الذي هو إصدار أجراس؛ ويمكن أيضا إدراكه كفاعلية للإنسان» لأنه من الممكن أن يتكلم شخص كثيرا ولا يقول شيئا وممكن أن يسكت شخص آخر ويقول الشيء الكثير؛ لذلك هو يستبعد الجرْس الصوت/فعل التكلم.
ويربط هايدجر حدوث اللغة ب(القوْلة) وهو «القول المتعدد الأشكال انطلاقا من أصل متنوع»؛ وتأتي هذه القوْلة من فعل التكلم؛ ويكون التكلم بعد مرحلة من الإنصات «إننا نسمع تكلم اللغة»؛ وهو هنا يجعل الإنصات حاضرًا في التكلم «إن التكلم هو في الآن نفسه إنصات».
ويأتي هنا إلى هدف اللغة الذي هو (الإبانة)؛ تُبِين ما هو غائب وتدعوه للحضور؛ عن طريق (القوْلة)؛ وبهذا يصل إلى هذا التخطيط //
اللغة ? التكلُّم ? القوْلة ? الخصُّ
وهذا هو طريق اللغة عن طريق اللغة.
فالقوْلة المُبِيْنة «تحرر الحاضر إلى حضوره وتسلم الغائب إلى غيابه»؛ وتظهر هذه الإبانة من خلال (الخصّ)؛ الخصوصية «إن ما يتحرك في إبانة القولة هو الخصّ» وتكمن الخصوصية في «أن نتكلم لغتنا الخاصة المعروفة سلفا» ومن ثم فإن «كل كلمة متكلمة سلفا هي جواب؛ قول مضاد؛ قول موافق؛ قول منصت».
ويصل هنا إلى فك رموز عبارته في بداية البحث (جلب اللغة؛ من حيث هي اللغة؛ إلى اللغة)؛ فتصبح «جلب شق طريق اللغة (حدوث اللغة)؛ من حيث هي اللغة (القوْلة)؛ إلى اللغة (الكلمة ذات الجرْس)»؛ وهذا هو أساس البحث الذي اشتغل عليه وأراد التفلسف حوله.
ويقر في الختام بتغيّر حدوث اللغة؛ أو تغير الطريق إلى اللغة بحسب معادلته السابقة؛ وذلك من خلال الشعر «و يمكن أن تنبعث تجربة يكون فيها كل تفكير متمعن شعرًا؛ وفي الوقت نفسه كل شعر تفكيرًا؛ ينتمي الاثنان لبعضهما».
** **
- صالح بن سالم