الثقافية - محمد هليل الرويلي:
يا إداوة الإدريس بربك أحدميني ريشتك فمن دونها كيف للتزاجي والتسابك أن تذعنا للعبد الفقير صاحبكم وهو يجهد في المواسقة على أنمار سلالات الضاد ومحتدها الأثيل لبلد كمثل اليمن العظيم الذي تنوسلت عبر وفاضه تفاخيم الأبجدية وتواشيح الشهقات البكرية أنى يتسنى لي التقوفل عبر أنموطات نغيمة دون أن تؤزل حقولي وتقتحط. فحسب صاحبكم أن أشهر إفلاس مدائن ثورته اللغوية وتنباعها حيال هذه الحضارة اليمنية بأصاتيمها وقارونيتها الثقافية.
هنا آدبكم معي للاشتناف والاشتغاف معي على هذه المأدبة والاستياح والارتياض على سفوحها اليانعية والاثتمال من نهور وحدائقية تحاتمها المأروث بهاضة أدبًا وفكرًا.
فللجوامع الكلمية المحمدية نقع «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا» قد أربك خطى أبجديتي وأنا أنضد ديباجتي حيال ترفيف الأفاوف وتسديلها أنفس الخمائل كي تغدو وائمة بيمننا المقدس. بيد حسبي شرفًا بتماسِ هذا البلد المموئل عراقة أن اجتذوت شعلة منه أزخمتني تضيؤ حد الاتهاج.
* الغناء العربي مهده يمان
تعد جنوب الجزيرة العربية - أي اليمن - موغل الموسيقى والغناء التطريبي, هذه المنطقة شهدت حضاراتها المتعاقبة حضورًا وامتدادًا للغناء والإنشاد وهي مركزًا لاختراعات الآلات المعزوفية والطربية, تؤكد المصادر أن اليمن عرفت الغناء، في الحضارات السبئية والمعينية والحميرية قبل الميلاد.
الباحث والناقد الأكاديمي اليمني الدكتور فارس البيل أوضح أن المؤرخين يجمعون على أن الجيل الأول من العرب المهاجرين من بلاد العرب الجنوبية بدأ يتحرك شمالاً خلال القرن الثاني الميلادي لذا بدأت الموسيقى العربية تتطور وتزدهر في مناطق ثلاث عربية: سوريا والعراق وغرب الجزيرة العربية بعد النزوح من جنوب الجزيرة. فاليمنيون الأوائل عرفوا آلة العود منذ ما قبل الألف الأول قبل الميلاد، وأسهمت الهجرات اليمنية، والحضرمية بشكل خاص في انتشار «القنبوس» في كل من شرق آسيا وتركيا والهند وشرق إفريقيا، والقنبوس تسمية محلية لآلة العود اليمني القديم المسمى بـ»الطربي» في صنعاء والقنبوس في حضرموت.
«أتعاد وتماد» اليمنيتان أول من غنيا في العرب قبل الإسلام
كما لا بد من أن نشير هنا إلى أن أول من غنّى من العرب قبل الإسلام، كانتا جرادتي بني عاد، وتسميان تعاد وتماد، القادمتين من عاد اليمنية، وهناك قينتا الحضرمي سيرين وصاحبتها، بينما «طُويس» يعد أول من غنّى في الإسلام في المدينة، الأمر الذي أدى لشهرته وذياع صيته وهو من اليمن كما أشار بذلك الباحث أحمد تيمور. ويعتبر طويس أبا الغناء في الإسلام كما أشار لذلك «الأصفهاني» إضافة لكونه أول من أدخل الإيقاع إلى الغناء العربي, حتى تحول الغناء إلى فن متقن في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكان الغناء المتقن فناً يمنياً ما زال معمولاً به ويُغنّى في اليمن حتى وقتنا الحالي. ويقوم بناؤه الموسيقي على استهلال غنائي من دون الإيقاع، يُؤدى بأسلوب الموال، بعد ذلك ينتقل في جزئه الثاني إلى الأداء بمرافقة الإيقاع الثقيل ثم يصبح هزجاً سريعاً بمرافقة الرقص في جزئه الثالث.
وعن المراحل الغنائية الأخرى اللاحقة وخصوصًا بعد عصر الإسلام الأول قال «البيل» على منوال طويس تلقف أعلام الموسيقى والغناء العربي في عصر الأمويين والعباسيين «إسحاق الموصلي» و»زرياب» والذي بدورهم نشروه وأشاعوه. بعد ذلك قام «زرياب» بنقله ونشره في الأندلس وطوّره، وكان الأصفهاني في مؤلفه الأضخم «الأغاني» قد عدّ ثمانية أصوات يمنية أو هي الألحان والكلمات المنسوبة إلى اليمن والقادمة من جهته ووردت في الأشعار العربية بمنهج إيقاعي معين. وفي نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي اشتهر المغنون اليمنيون ومنهم «ابن طنبور» الذي عُرف بالغناء الخفيف المسمى الهزج، ووصفه المؤرخون أنه كان أهزج الناس وأخفهم غناء، كما ورد في «المستطرف».
الموشحات الأندلسية يعود أصلها إلى اليمن
وقال البيل: ويؤكد باحثون أن فن الموشحات التي اشتهرت بالأندلس، يعود بالأصل إلى اليمن، فجذور كلمات الموشح وتراكيبه ومذاهبه تشبه الأصل اليمني، يقول الرفاعي في كتابه «الحميني الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي»، ومن قبله المؤرخ محمد عبده غانم، كما أكد ذلك الباحث والفنان اليمني محمد مرشد ناجي بقوله: إن أول من قال الموشح الشعري هو مقدم بن معافر المقبري وهو أيضاً من اليمن من معافر. وأضاف: قد ذُكر في «نفح الطيب» للمقري التلمساني, والمصنف أقدم وأهم موسوعة أندلسية، أن النسبة الغالبة لشعراء الأندلس هم في الأصل يمنيون، بعد لحاق اليمنيين وبأعداد كبيرة للمشاركة مع جيش طارق بن زياد خلال فتحها، زد على ذلك الألفاظ والمفردات الواردة في الموشحات تشكل معجماً واسعاً من الألفاظ والكلمات المحلية اليمنية المتداولة حتى الآن.
لافتًا النظر إلى أن الفن اليمني ذاع أيضاً على ألسنة اليهود اليمنيين حتى بعد فترة رحيلهم الشهير في أواخر الأربعينيات إلى إسرائيل، وذلك لكونهم قاموا بنقله كما هو ولا يزالون يؤدونه بألفاظه وألحانه رغم مضي ستة عقود من رحيلهم، محتفظين بتراثه وطقوسه وإيقاعه، ولاقى ذلك رواجاً كبيراً وانتشاراً في العالم. وختامًا لا بد من الإشارة على الرغم من كون التراث اليمني غنياً وغزيراً وأصلاً تفرعت منه فنون ومذاهب كثيرة من الطرب إلا إنه شهد خفوتاً في العصور اللاحقة تبعاً لعوامل دينية وسياسية واجتماعية كثيرة.
مسرح المقيل اليماني
يبدو أن (المقيل اليماني) في موعده اليومي وفي شكله التنظيمي اختراعاً يمانياً خالصاً دفعت إليه. وفي العصر الحديث خاصة –حاجة أبناء المدن اليمنية المحرومة – باستثناء مدينة عدن – من النوادي والمقاهي ودور السينما. رئيس مركز الدراسات والبحوث الناقد الدكتور عبدالعزيز المقالح أوضح «للثقافية» أن هذه (المقايل) تختلف من مكان إلى آخر باختلاف نوعية مرتاديها ومستوياتهم الثقافية وأغلبها مقايل عادية يجتمع فيه أبناء الحارة أو أصحاب المهنة لتناول عُشبه القات أو شرب القهوة والشاي. وتنفرد المقايل الأدبية عن غيرها بمستوى روادها وهم صفوة من المثقفين والأدباء، كما تدور الأحاديث في هذا النوع من المقايل حول كثير من القضايا المحلية والعربية والعالمية، وقد وصفها واحد من كبار المثقفين العرب بأنها «برلمانات صغيرة» وهي لا تقتصر على أحاديث السياسة وأخبار المجتمع بل يتم فيها قراءة بعض المقالات وأحياناً قراءة فصول من كتاب معين فضلاً عن الإنصات لسماع آخر ما أبدعه الشعراء والشّبان منهم بخاصة لتقويم مسارهم الشعري والدفع بالمواهب الناشئة إلى الارتقاء.
وعن أهم المقايل في اليمن أبان «مقالح» أن مقيل مركز الدراسات والبحوث اليمني، ومكانه مبنى ملحق بالمركز كان أهم المقايل التي حظيت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم بشهرة واسعة تعدت المحلية إلى الوطن العربي، فقد كان من روادها عدد من أساتذة الجامعة وزوار البلاد من الشعراء والمفكرين ويصعب حصر أسماء من حضروا لفترات طويلة أو قصيرة هذا المقيل من كبار المبدعين العرب، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد كان منهم أدونيس وكمال أبو ديب وعلي جعفر العلاق وأحمد عبدالمعطى حجازي ومحمد علي شمس الدين، وشوقي يزيع وجودت فخر الدين والمفكر الراحل حسين مروة والمفكر والناقد محمود أمين العالم.
ومن شعراء الجزيرة الخليج قاسم حداد وعلوي الهاشمي وعلي الشرقاوي وعبدالله الصيخان ومحمد الحربي ومحمد الثبيتي وعبدالله ثابت ومحمد المباركي وأحمد ثاني وسيف الرحبي. ومن العراق عبدالرزاق عبدالواحد وبلند الحيدري وحاتم الصكر وخالد علي مصطفى وآخرون من أقطار المغرب العربي والسودان.
وعن التطورات التي شهدها المقيل اليماني قال «مقالح» في هذا المقيل الذي استطاع أن يجتذب كل هذا الحشد من المبدعين والمفكرين والمثقفين العرب ظهرت فكرة «مسرح المقيل» وولدت في البداية على شكل سؤال مستوحى من الأحاديث المتبادلة والمحكومة برئاسة تتولى ترتيب أسماء المتحدثين الموزعين في المكان في شكل المستطيل. منوهًا إلى أن المحاولة بدأت مرتجلة يتوزع معها الممثلون في الجهات الأربع حسب الجلوس ويشرع كل ممثل في أداء دوره دون اهتمام بمؤلف ومخرج لكن الأمر لم يستمر كذلك فقد تولّى المخرج العراقي
كريم جثير تنظيم المهمة وقام بإعداد مسرحيتين شعريتين للشاعر الكبير صلاح عبدالصبور هما «مسافر ليل» و»الأمير ينتظر» ومسرحية أخرى عن «موت سقراط» وحاول هذا المخرج الموهوب والدؤوب أن ينتقل بالتجربة من المركز إلى بعض المنازل الصنعانية وكانت مفاجئة للرواد. تلك المقايل وبعضها شعبية تحلم بأن ترى المسرح وتتعلم مما يطرحه الممثلون من أفكار لكن التجربة لم تستمر ولم تأخذ مداها المطلوب.
فشل المقيل كما فشل مسرح الشارع
وفند «مقالح» سبب فشل ودوافع نجاح مسرح المقيل مقارنًا التجربة بتجربة مسرح الشارع والذي فشل بدوره أيضًا بعد أن كان متنفسًا للمارة والعاطلين والمحرومين من الفقراء وقال: ربما أثبتت حصيلة تلك التجربة الفريدة للمتابعين لها وكنت واحداً منهم أن مسرح المقيل فكرة يمكن لها أن تنجح وتحقق أهدافها إذا ما وجدت تشجيعاً من الجهات المسؤولة عن الثقافة وذلك ما لم يحصل. كذلك كان من الصعب اقتحام المقايل بعدد كبير من الممثلين، ومعنى ذلك أن مسرح المقيل لا يحتمل تعدد الشخصيات وربما تكون مسرحيات الكاتب الأيرلندي صمونيل يكت النموذج الذي يتلاءم مع هذا النوع من المسرح المحدود الساحة والخالي من الخشبة والجدران الثلاثة. وتبقى التجربة قابلة للتكرار والتصحيح والارتقاء، وهي تذكرني بما كان قد بدأه في القاهرة صديقي الكاتب المسرحي المجهول محمد عبدالله الذي كان قد توصل مع عدد من زملائه عشاق المسرح أن يبدأوا في تأسيس شيء اسمه مسرح الشارع، يخرجون بالمسرح من أقبية المسارح المغلقة إلى الهواء الطلق وكانوا قد عثروا على زاوية مهملة بالقرب من ميدان سليمان باشا واتخذوا منها مسرحاً سرعان ما جذب إليه المئات من الناس العاطلين والمحرومين من دخول المسارح القومية والخاصة، لكن تجربة مسرح الشارع فشلت كما فشلت تجربة مسرح المقيل للأسباب ذاتها، عدم وجود الإمكانات التي تساعد على استمرار انطلاقتها.
خطاب النّخبة السّياسيّة في اليمن
رئيس منتدى الناقد العربي بصنعاء وأستاذ الدراسات العليا في جامعة الملك خالد البروفيسور عبدالواسع الحميري تناول ما يمكن تسميته بـ»ثقافة النّخبة» السّياسيّة في اليمن هذه النّخبة التي يفترض أنّها تتبنّى التّغيير, وتسهم في صياغة الوعي وتوجه الإرادة والسّلوك الجمعيّ في اليمن, جازمًا أنّ ثقافة هذه النّخبة في اليمن لا تكاد تختلف عن ثقافة النّخبة في أيّ مجتمع عربيّ آخر, خاصّة تلك المجتمعات التي تبنّت أنظمة سياسيّة هجينة؛ ادّعت أو كتبت في دساتيرها أنّها أنظمة تعدّديّة ديمقراطيّة, وأنّ السّلطة فيها ملك للشّعب, لكنّها بقيت تمارس- في حقيقة الأمر- أسوأ أنواع الدّكتاتوريات التي عرفها تاريخ البشريّة قديماً وحديثاً, وسعت إلى امتلاك السّلطة ومحاولة توريثها بكلّ الوسائل الممكنة وغير الممكنة. ما أدّى بأوضاع هذه المجتمعات إلى التّدهور المريع الذي بتنا نشهده اليوم في كلّ من العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال ولبنان..إلخ.
المثقف اليمني مبرمج
وصنف «الحميري» المثقّف في اليمن – كما في هذه المجتمعات لمثقّف منتمٍ إلى جماعة أو فئة أو إلى حزب أو قوّة سياسيّة أو اجتماعيّة ما, وبالتّالي, فهو مبرمج ببرنامج تلك القوّة التي ينتمي إليها, ومستلب بشروط انتمائه إليها. وأضاف: هناك مثقّف غير منتمٍ إلى أيّ من تلك القوى السّياسيّة, وبالتّالي, فهو غير مبرمج ببرنامج أيّ من القوى السّياسيّة الفاعلة في السّاحة اليمنيّة. وفي اليمن, يصعب على المتابع الجزم بأنّ أحداً من المثقّفين الفاعلين في السّاحة غير منتمٍ سياسياً, أو على الأقلّ, غير مستلب بشروط انتمائه الظّاهر إلى هذا الحزب أو ذاك, إلى هذه الجماعة أو تلك, غير بعض الأسماء القليلة والمعروفة. وتابع: لذلك نجد أنّ ما يميّز المثقّف غير المنتمي أنّه بلا موقع حقيقيّ في المجتمع يستند إليه في ممارسة فعل القوّة الثّقافيّة؛ ولأنه بلا موقع حقيقيّ, فهذا ما جعل من فعله الثّقافي فعلاً غير فاعل في الحياة الثّقافيّة العامّة, وجعله, هو ذاته بمثابة الشّاة الخارجة عن القطيع, تطاردها ذئاب الأحزاب القبليّة أو الجماعات السّلاليّة أو العشائريّة أينما ذهبت حتى توقعها في شراكها غير مأسوف عليها. وزاد: إنّه يعيش حالة من النّفي والإقصاء والعزلة أو الافراد تشبه إلى حدّ كبير حالة الكائن الخليع؛ صورة البعير الأجرب الذي جعل منه طرفة ابن العبد معادلاً رمزيّاً لوضعه السّوسيو- أنطولوجي في إطار عشيرته؛ باعتبار أنّ طابع الانتماء السياسي أو الحزبيّ, في عالمنا العربيّ, لا يزال يأخذ طابع الانتماء العصبويّ القبليّ أو العشائريّ أو المذهبي أو السّلالي.
كما أن هناك مثقّفاً منتمياً إلى مؤسّسة السّلطة (أو السّلطان) وهو مثقّف مبرمج بخطاب المصلحة أو المنفعة التي تربطه بالسّلطة أو تتحقّق له عبرها. من خلال عمله الدّائم على تكريس خطابها (الاقصائي) لكلّ معارضيها الفعليّين أو الافتراضيّين.
وأكد «الحميري» إن ما يميّز خطاب النّخبة السّياسية في اليمن عموماً أنّه خطابُ وصايةٍ سياسيّة ودينيّة وثقافيّة واجتماعيّة؛ فهو وإنْ حاول أن يقنعنا أنّه يمارس دور تمثيل الجماهير اليمنيّة والتّعبير عن إرادتها, إلّا أنه قد بقي يمارس, في حقيقة الأمر, دور تدبير شؤون الجماهير العامّة والخاصّة, نيابةً عنها ودون تفويضٍ منها, أو إذنٍ بتمثيلها.
مشيرًا إلى أن خطاب ذاكرة يعد خطاب وصاية بالمعنى المشار إليه, فهذا يعني أنّه قد ظلّ يتأسّس في إطار ما يمكن تسميته بـ»ثقافة الذّاكرة», بوصفها ثقافة الوصفات الجاهزة في التّعاطي مع قضايا الواقع الاجتماعيّ والتّاريخي الحيّ, بدل أن يتأسّس هذا الخطاب في إطار ما يمكن تسميته بثقافة الواقع الاجتماعيّ التّاريخي الحيّ في حضوره الماثل, بوصفها ثقافة كليّةً مركّبة من ثقافة الواقع وما يحقّق شروط تغييره, وهو ما أدّى بقوى النّخبة هذه إلى الوقوع في أخطاءٍ كبيرةٍ وكثيرةٍ أصابت الوطن اليمني في الصّميم, وأعاقت حركة تطوّره إلى الأمام, بل لقد أسقطته في ما سقط فيه أخيراً من حرب ودمار على النّحو الذي بتنا نشهده جميعا اليوم.
واصفًا خطاب «سلطة التسلّط» بالقمعي الأحادي الذي يدعي امتلاك الحقيقة المفكر فيها بينما هو يصادر حق الآخرين وقال: إنّ منطق التّفكير السّائد في أوساط هذه النّخب السّياسيّة المتصارعة اليوم في السّاحة العربيّة بعامة واليمنيّة بخاصّة, هو منطق سلطويّ قمعيّ أحاديّ يدّعي امتلاك الحقيقة المفكَّر فيها, ويصادر حقّ الآخرين في مجرّد البحث عنها, مستخدماً لغةً سلطويّةً قمعيّةً, هي في بنيتها العميقة, لغةٌ تكفيريّةٌ أو تخوينيّةٌ؛ كلّ ناطقٍ بها يقدّم نفسه للجماهير, باعتبار أنّه لا ينطق إلاّ بالحقّ, ولأجل الحقيقة, وأنّ كلّ ناطقٍ آخر سواه, لا ينطق إلا باطلاً, حتى ليبدو المجتمع, في عين هؤلاء وأولئك, وكأنّه لم يعد يتألّف من بشرٍ يتحاورون ويتكاملون؛ يخطئون, ويصيبون, بل يبدو وكأنّه قد غدا مؤلّفاً فقط من ملائكة معصومين, وشياطين مردة, موضحًا أن هؤلاء وأولئك يتبادلون, في الخطاب الثقافيّ السّائد, أدوارهم ومواقعهم, فالذي كان, في عين هؤلاء, ملاكاً معصوماً بالأمس, يمكن أن يصبح, بين عشيّة وضحاها, شيطاناً مريداً, والذي كان شيطاناً مريداً بالأمس, يمكن أن يصبح, بين عشيّة وضحاها, ملاكاً معصوماً. وهكذا دواليك.
وأشار إلى أن غياب ما يسمّى» الرّأي الآخر» عن وعي هذا الخطاب, مقابل حضور ما يمكن تسميته بـ» الرّأي والرّأي المضادّ» المعبّر عن»الموقف» و»الموقف المضادّ», ما أحال ساحة التّفكير عند هذه النخب, ساحةً لتصارع المواقف والرّؤى والأفكار أو الأيديولوجيّات المعبّرة عن مصالحها الخاصّة, بدل أن تبقى ساحةً لتبادل الآراء والأفكار وإثرائها بوجهات النّظر المختلفة.
وفند «الحميري» خطاب النخب السياسية في اليمن بغير الديمقراطي عازيًا ذلك لثلاثة أسباب رئيسة على الأقلّ أولها: لأنّه لا يزال خطاباً متمركزاً حول ذاته, لذلك فهو لا يزال يفكّر في قضايا الواقع السّوسيو- سياسيّ ويدركها, أو يقيم علاقته بها بطريقة غير ديمقراطيّة, على نحو من شأنه أن يصادر على تلك القضايا المفكَّر فيها حقّها في الوجود, جاعلاً منها مجرّد أداة أو ذريعة لتحقيق وجوده هو ذاته وتجسيد فاعليّته, وإِنْ بمعزلٍ عنها. والسبب الثاني لأنّه ما يزال خطاباً مبرمجاً بنوع من الثّقافة الأحاديّة المغلقة التي من شأنها أن تستلب من الكائن العاقل إرادته الحرّة والمسؤولة, وتصوغ وعيه بقضايا الواقع بطريقة آليّة زائفة. لذلك فهو لا يعمل على تحليل الواقع الملموس في حضوره الماثل, بقدر ما يستلهم تحليلاته من نصوص ثقافة الذّاكرة النّاظرة إليه والمنظّرة له, أي من نصوص (السّلف) أو من نصوص الخلف, ممثّلا في كل ما يأتي من الغرب من أفكار ونظريات معلبة جاهزة. أما ثالث الأسباب فهو: أنّ الدّيمقراطيّة التي يفترض أنّها هي التي جلبت هذه الأحزاب والقوى إلى السّاحة الوطنيّة, ومنحتها شرعيّة العمل السّياسي, ما تزال غائبة عن دنيا تلك الأحزاب والقوى؛ غائبة عن دنياها كمعنى, كجوهر, أو كرؤية وسلوك وممارسة, وإن قدّر لها أن تحضر في عالم هذه الأحزاب, فإنها لا تحضر إلاّ كشعار, أو كسلاح تشهره في وجوه خصومها المتنافسين معها في السّاحة. فالديمقراطية إذن ما تزال تمثل بالنسبة لهذه النخب, سلاحاً خطراً؛ تمّ استيراده من الغرب- فحسب- لضرب الخصوم السياسيّين- تماماً كما تستورد الدّبابة, أو الطّائرة النّفاثة, أو كاسحة الألغام التي تمكّننا من اقتحام حصون أعدائنا, وإلحاق الهزيمة بهم, لكن دون أن نكون قد عرّضنا أنفسنا لأيّ خطر. إذن هذه القوى ما تزال تستعمل الدّيمقراطيّة بوصفها سلاحاً في مواجهة الآخر, وليس بوصفها إمكانيّة لبناء الذّات والآخر. أو قل: إنّها مجرّد آليّة حربيّة من آليّات الدّفاع والهجوم؛ الدّفاع لمن وصل منها إلى السّلطة, والهجوم لمن لم يصل.
* أزمة الثقافة في اليمن
الكاتب والإعلامي ثابت الأحمدي تناول تشكل المشهد الثقافي الاستثنائي خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات وبروز الاعلام وهو ما افتقدته السنوات السبع الأخيرة في الحركة الأدبية والثقافية اليمنية التي وصفها بـ»اللا أدب واللا ثقافة» وقال: الحديث عن أزمة الثقافة في اليمن جزء من الحديث عن أزمة الدولة بذاتها كإطار جامع لكل المفاهيم، الثقافة هنا باعتبارها عملاً مؤسسياً جمعياً تنتجه الدولة، كجزء من مهامها، وفقا لأولوياتها ومنطلقاتها في هذا الجانب. والواقع أنه لا ثقافة بلا دولة، إلا ما كان منها حالة فردية، والإبداع في اليمن فردي على مر تاريخه، لضعف مؤسسات الثقافة التي هي انعكاس لضعف الدولة أصلاً.
وأشار إلى أنه خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات تشكل مشهد ثقافي استثنائي في اليمن بشطريه، وبرزت أعلام كبيرة ليس على مستوى اليمن فحسب, بل على مستوى المنطقة العربية، والعالم أجمع، كالراحل الكبير الشاعر عبدالله البردوني وعبدالعزيز المقالح «أنموذجين» وإلى جانبهما الكثير من الشخصيات التي يصعب حصرها، لقد كان مشهداً ثقافياً فكرياً خالصاً، كان له امتداده إلى دواوين السياسة، ومنذ مطلع التسعينيات استحر جدل ثقافي آخر هو امتداد له على أية حال، إلا أنه جدل أوغل في السياسة وتماهى معها، حتى بدت المعادلة طردية لما كانت عليه بالأمس؛ إذ غزت السياسة دواوين الثقافة والأدب، على العكس مما كان عليه المشهد في العقدين السابقين، وظلت هذه المعادلة في نمو حتى تحول المشهد كله سياسياً أو يكاد. أما في السنوات السبع الأخيرة فلا أدب ولا ثقافة ولا سياسة بمفهومها العام، بل صراع وصراع آخر، صار الحديث فيها عن الثقافة والأدب ضرباً من الترف والخيال، عدا همسات خجولة من الإبداع الفردي هنا أو هناك، لا تستطيع تكوين مشهد لافت أو حالة تستحق المتابعة، خاصة من خارج الوسط الأدبي والثقافي نفسه، وهي حالة يبدو أنه سيمتد بها الوقت إلى أمد ليس بالقصير.
هذا على سبيل الإجمال، لكن ـ وإنصافا للحقيقة ـ أقول: لقد تشكل مشهد ثقافي فيما بين 2004م ـ 2007م تقريباً. نستطيع القول إنه إبداع مؤسسي، لكنه لا يبدو غير لمحة عابرة سرعان ما انطفأت وتراجع وهجها، وهو ما جعلنا نقول ألا مشهد للثقافة بمعناه الجامع، كما هو الحال مثلاً في القاهرة أو دمشق أو بغداد، أو بيروت، العواصم العربية العريقة في الثقافة والإبداع.
واختتم «الأحمدي» العجيب أن هذا الجدب الذي مرت به العقود الماضية لا عن فقر في الكفاءات أو انعدام في المبدعين, بل عن عدم اهتمام رسمي أصلاً بالحالة الثقافية التي تنظر لها السلطة والحكومة نظرة ثنائية، وترفاً لا حاجة له.
* الصحافة الثقافية غياب قسري
ولأن الحديث عن الصحافة الثقافية في اليمن في ظل هذه الظروف العصيبة التي تجعل السياسة حاضرة الصمت والجدل، ضرباً من السخرية لأن معظم الصحف بشتى اتجاهاتها توقفت تحت وطأة شحت السيولة المالية بعد تعطل أبواب النفقات بما فيها النفقات التشغيلية إلا ما ندر منها، ومنها مخصصات المؤسسات الإعلامية المتعلق بدعم الملاحق الثقافية أو الصفحات الثقافية المتخصصة.
الصحفي والشاعر محمد محمد إبراهيم أكد أن الصحافة الثقافية في اليمن شبه غائبة أو مغيبة تماماً إلا ما ندر وهو في هامش المطبوعات حتى في الوضع الطبيعي. فقبل السنوات الست العجاف التي يعيشها الشارع اليمني منذ ثورة الشباب أو ما أسمى بالربيع العربي، الذي دق آخر مساميره في نعش الحراك الثقافي الضئيل أصلاً. كما لو كان الربيع العربي رصاصة الرحمة. فقد أوقفت الثقافة التي كانت تصدر عن الجمهورية والتي لم تكن أصلاً كما كنت في نهاية تسعينيات القرن الماضي وإلى العشر السنوات الأولى من الألفية, كما قضى على الملحق الثقافي في صحيفة الثورة الذي لم يستمر بعد أزمة الربيع طويلاً.
وأضاف: لا ينكر أحد أن هناك محاولات ومبادرات ثقافية كان لها صولتها وجولتها القصيرة في الصحافة الثقافية في اليمن كالثقافية التي كان لها حضور جدلي ثقافي كبير في الأوساط الثقافية والإبداعية اليمنية, وكذلك ملحق الثورة الثقافي الذي كان يصدر عن صحيفة الثورة, ودورية الثقافة التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة ولكنها غير منتظمة سوى في أعوام الخصب الثقافية التي كان فيها المثقف والأديب الأستاذ خالد الرويشان على رأس قيادة الوزارة, ولم تظهر دورية ثقافية عن مؤسسة صحفية في البلد خاصة أو عامة, وكذلك من الدوريات المهمة في مجال الصحافة الثقافية مجلة الحكم اليمانية لكن غلب عليها طابع الإصدارات المحكمة. التي ليست على صلة بتغطية الفعل الثقافي المغيب إعلامياً.
وأرجع «إبراهيم» الأفول والتراجع الكبير في طرح ومحتوى وتناول الصفحات الثقافية وبزوغ شمس النصوص الجامدة والآراء المصبوغة بالانطباعية لغياب الصحفيين المحترفين في المجال الثقافي إذ إن معظم من رأسوا وأشرفوا على تحرير تلك الإصدارات الطفيفة هم إعلاميون وكتاب لا يملكون موسوعية الفن التحريري وهو ما جعل تلك الملاحق والدوريات مصبوغة بالانطباعية والنصوص الجامدة خالية من فن التحقيق والتقرير والاستطلاع المكاني والحوارات إلا ما ندر وخلاصة القول: إن بلد يشتعل بتسييس كل ما له صلة بالحياة اليومية وصدف الأحداث العابرة، ويرزح تحت ثقل معيشي أليم، وانهيار اقتصادي مستمر.. كفيل بأن تغيب فيه كل بوارق الفعل الثقافي والتفاعلات الثقافية وكفيل بأن يقتل مبادرات المؤسسات الثقافية في الندوات والنقاشات والفعاليات الثقافية المختلفة.