سهام القحطاني
المجتمع السعودي هو مجتمع ديني أي أن فكره وثقافته ينطلقان من هذا التأصيل. ووفق ذلك التأصيل فإن القوة المهيمنة على العقل الجمعي هي قوة الديني المتمثلة في خطابه الأيديولوجي الجاذب للجماهير باعتبار صدقيته المطلقة. تلك الصدقية التي تسيطر على العقل الجماهيري، وخطورة هذه الصدقية المفتوحة غياب شرطية الاقناع والعقلية كأهم شروط تحقق الصدقية، وهو فعل إرادي جماهيري وهذا الأمر غالباً ما يستخدمه الخطاب الديني لتشريع أفكار ذلك الخطاب ولو خرجت عن محيط منطق الاقناع والحقيقة والعقلانية؛ لامتلاكه ثقة العقل الجماهيري في أفكاره وتشريعاته التي دائماً ما تكون محمية من المراجعة والنقاش لخاصيتها القدسية كما «يروّج الخطاب الديني لها».
كلما اتسعت دائرة ترقي المجتمعات الدينية اشتدّت شراسة الخطاب الديني؛ لأنه يظن أن الترقي يهدد سلطة استحواذه الجماهيري؛ لأنه قد يؤدي إلى ظهور خطاب قد يتقاسم معه العقل الجماهيري بل وقد يسحب منه تلك السلطة الجماهيرية، وهو ما يجعل الخطاب الديني في حالة استنفار دائم لمقاومة أي خطاب تجديدي، يتقاطع مع أفكاره أو يختلف في اتجاهات الرؤية وترتيب الأوليات وإعادة منطقتها أوتشكيلها.
كانت فترة السبعينات الميلادية بالنسبة للمجتمع السعودي فترة الانفتاح على كافة المستويات شكلاً ومضموناً هذا الانفتاح الحضاري كان من الطبيعي أن يتواكب معه انفتاح فكري وثقافي بقيادة الرواد الأوائل من الأكاديميين السعوديين الذين أكملوا تعليمهم في الجامعات الأوروبية وعادوا محمّلين بالكثير من الأفكار والنظريات التجديدية. إضافة إلى ذلك اعتناق العديد من المبدعين السعوديين سواء في مجال الشعر أوالقصة لأفكار المذاهب الأدبية والنقدية والتي عرفت فيما بعد إجمالاً «بالحداثة»، وتوسع نطاق هذا الانفتاح الثقافي والفكري بفضل العديد من «المنصات الإعلامية» التي تركت منابرها مفتوحة للفكر الجديد.
وفي بداية الثمانينات الميلادية ظهر خطاب ديني مقاوم لذلك الانفتاح الفكري سُمي «بالصحوة» وقد واكب ذلك الخطاب الحرب الأفغانية السوفيتية. ولم تقتصر «الصحوة» على تحريض الشباب على إلقاء أنفسهم في الجحيم الأفغاني، وصناعة خطاب متطرف، بل تمددت إلى تحريض المجتمع على معاداة الفكر الثقافي الجديد ونبذ أصحابه بل وتجاوز الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك هو»تكفير رواد ذلك الفكر»، مما أدخل الطرفين «رجال الصحوة» و»رجال الحداثة» ومن أتبعهم في صراع شرس، حوّل رجل الدين إلى رجل فكر، وحول رجل الفكر إلى فقيه ديني.. لينتهي ذلك الصراع «بهزيمة الحداثة ونكبة الحداثيين» و»انتصار الصحوة».
ولاشك أن انتصار خطاب الصحوة كان يعود لأسباب عدة من أبرزها، المبدأ الذي أسست الصحوة من خلاله خطابها وهو»حماية المجتمع». إن فكرة «حماية المجتمع» هي دوما الفكرة الجاذبة للعقل الجمعي أو الجماهيري في أي خطاب في حين أن فكرة «تغير المجتمع» فكرة معادِلة «لتهديد الاستقرار على كافة المستويات»، ولذا تظل فكرة التغير في أي خطاب «عامل تنفير» للعقل الجمعي أو الجماهيري هذا العامل هو الذي يُشكل موقف الرفض والمعارضة للفكر الجديد من قبل القاعدة الجماهيرية.. وكان هذا المبدأ هو الذي شكّل العقل الجماهيري لخطاب الصحوة، والذي استطاع من خلاله توظيف ظهير شعبي للتحريض على الفكر الحداثي.
إن التعامل المستمر لرجال الدين مع عامة الناس جعلهم أكثر خبرة ودراية بنفسية المتلقي وهذه الدراية عززت قدرتهم على صناعة الخطاب الجماهيري الجاذب والمقنّع، وهذا الأمر كان الأبرز في معركة الحداثة والصحوة. إضافة إلى نجاح «رجال الصحوة» في تشكيل «لوبي صحوّي» متعدد الأطراف يعمل وفق وحدة كلية ذات غاية أحادية، والسبب الأخير والأهم في هذه المعركة المساندة السياسية لخطاب الصحوة، وتمكينها الواسع إعلامياً وتعليمياً، مقابل رفع أي غطاء سياسي للفكر الجديد أسهم بلاشك في غياب توازن القوى في تلك المعركة.
أما «هزيمة الفكر الحداثي» أمام «الفكر الصحوي» فيمكن إعادتها إلى ستة أخطاء وقع فيها الحداثيون. وهي القراءة الناقصة للمجتمع، اضطراب القياس، تجاهل تكوين قاعدة جماهيرية، الصراع مع الديني، النخبوية، تشتت جهود الحداثيين وعداء بعضهم لبعض. هل كان المجتمع السعودي في ذلك الوقت مستعداً لهكذا تغير جذري على المستوى الفكري؟. لقد اعتقد رواد الفكر الحداثي إمكانية تعايش المجتمع مع أي تغير فكري دون استقصاء لطبيعة المجتمع ومستوى تطوره الحاصل في ذلك الوقت ونوعيته. إن الانتقال السريع للمكون الاجتماعي السعودي من طور البداوة والريفية إلى طور المدينة والتحديث بفضل الطفرة النفطية وارتفاع مستوى دخل المواطن السعودي، هذا الدخل الذي ُصرف جلّه في مسارين، المسار الأول التحديث المادي «البناء» والمسار الثاني السفر والترفيه. لكن على المستوى الفكري فإن الحضارة المادية حاصل الطفرة النفطية لم تقترب أبداً من محيطه الفكري أو معتقداته الاجتماعية والثقافية، وهذا الخطأ الأول والأعمق الذي وقع فيه الحداثيون وهو فشلهم في التقدير الواقعي لمدى التطور الفكري النوعي للعقل الجمعي. وخطأ هذه التقدير أنتج اضطراب آلية القياس التي استخدمها الحداثيون، فقد ظن الحداثيون سهولة تغير استجابة العقل الجمعي للتغير الفكري أسوة باستجابته للتغير المادي، وهذه المساواة غير صحيحة، فالتغير المادي لا يتعرض لقيم ومعارف ومعتقدات العقل الجمعي، ولذا كانت الاستجابة مرنة وكاملة، وهذا ما دفعهم إلى الاعتماد على إقامة قياس مساوي لتلك الاستجابة، دون مراعاة لطبيعة التغير ومحتواه.
وقد فصّل الغذامي في كتابه «حكاية الحداثة هذا المسار»: اعتقد الحداثيون -الأكاديميون والمبدعون- أنهم يملكون القدرة على فرض أفكارهم على العقل الجمعي، من باب «المفكر العليم» والأكثر اطلاعاً على اعتبار أن تلك الصفتين تمنحهم تقرير مصير العقل الاجتماعي كيفما يشاؤون؛ أسوة برجال الدين. وللمرة الثانية يقع الحداثيون في اضطراب القياس، عندما دخلوا في صراع مع الخطاب الديني، الخطاب المحمي من قِبل العقل الجمعي بشفرة قدسية. فجماهيرية الخطاب الديني مبنية على تطابق ما يعتقد ذلك الخطاب وما يعتقد العقل الجمعي إضافة إلى الثقة ووضوح القيمة ومسار الغاية والأهم خاصية القدسية المحيطة به. وتلك شروط لا يملكها الفكر الحداثي، وغياب تلك الشروط أفقدت قدرة الفكر الحداثي على تكوين ظهير جماهيري يسانده في صراعه مع خطاب الصحوة، بسبب غموض مبادئ هذا الفكر وأهدافه، والشبهة الدينية التي أحاطت به ثم حشره من قِبل رجال الدين في زاوية الحلال والحرام والكفر والإيمان.. «فليس المهم أن تؤمن بما تعتقد، بل المهم أن يؤمن الناس بما تعتقده أنت»؛ وأحادية الاعتقاد مع غياب الظهير الجماهيري ومحاصرته من قِبل الخطاب الصحوة، حوّل الفكر الحداثي إلى «جماعة نخبوية» ما لبث أن دبت فيها الخلافات وانحصر دورها الجدالي في الصراع بين أصحابها، هذا الصراع الذي شتت الجهود وفتت دائرة التماسك وأعاق صناعة خطاب لهذا الفكر وحوّلها إلى «ظاهرة تاريخية» ظلت تتقلص مع حصار الأيام حتى اختفت، لتنتهي حكاية الحداثة وتبدأ حكايات أخرى.