تركي بن رشود الشثري
يقول أفلاطون (ليست الأمور دائماً كما تبدو لنا). يقودني التفكير أحياناً إلى السؤال الآتي:
هل ما أفكر فيه صحيح أم زائف، سواء في عالم الأفكار أو العلاقات أو المستقبليات؟
وبطبيعة الحال، فطريقة التفكير تؤثر على اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام كما هو مقرر. وقد فاجأني أحد الأصدقاء المقربين بقوله إنني لا أستطيع التحدث معك إلا بلغة الإحصاء والأرقام عند الأحكام، وبلغة العزو الموثق عند الأخبار؛ فطيلة الجلسات التي جمعتنا أحسست فيك طاقة نفسية، تدفع لإصدار حكم غير مرتبط بالأرقام الثابتة، وتدفع الأخبار التي تفتقر للمصدر المسؤول. وبالنسبة لي فقد فوجئت لأنني أستشعر مرونة وتلقائية لا ترقى لهذا التحكيم آنف الذكر. فلما جلست خالياً، واستعرضت ما مر، وأنزلته على عدد من الوقائع، تبين لي وجاهة ما ذهب إليه هذا الصديق. وبالفعل إنها غريزة باطنة آسرة وغير متكلفة، بل لا أستطيع منها فكاكاً. عثرت على كتاب حديث الإصدار بعنوان (لا تصدق كل ما تفكر فيه). وقد قدم له مؤلفه توماس كيدا بمقولة لـ(ليلي توملين): «إنك كما تعتقد تماماً.. يا للهول إنه لأمر مفزع». هرعت لقراءة هذا الكتاب مباشرة، وقليلة هي الكتب التي أقرؤها قبل أن تأخذ دورها في رفوف المكتبة. يتناول الكتاب علم نفس التقييم واتخاذ القرارات، وأورد فيه مقولة ليوربيدس: «إن أعظم سمة لدى الفرد من حيث القيمة هي الشعور المتعقل بما لا ينبغي تصديقه». نعم؛ فقيمة الإنسان وميزته الأعظم هي العقل، فإذا كان لا يستخدم عقله، أو يستخدمه بطريقة غير صحيحة، فهذه جناية في حقه. أورد المؤلف ستة أخطاء في التفكير، هي:
- تفضيل القصص على الإحصاءات.
القصص ممتعة، والناس ينصتون تماماً إذا رويت القصة، بينما يتململون قبلها وبعدها حيث القواعد المنطقية أو الضوابط الشرعية أو الإحصاءات والدراسات الموثقة.. فنحن كائنات اجتماعية، ويقلد بعضنا بعضاً؛ ولذلك نهتم بقصص الآخرين، ونخشى أن يصيبنا ما أصابهم، أو نطمع في أن ينالنا ما نالهم. والمشكل ليس في القصص الحقيقية التي هي بمنزلة مخازن للحكمة والتجارب العميقة وسجل لخبرات المجتمع، بل المشكل في ربط قوانين الحياة أجمع بالقصة؛ فكل حدث نعلق عليه بقصة مشابهة، وكل مشكلة نحلها بأمثال العرب، مع أن هذه الأمثال تأتي ويأتي ما ينقضها، فلأي المثالين نميل؟ ولذلك أمثلة، منها بيتان شعريان، هما:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
والبيت الثاني يقول:
وربما فات بعض الناس أمرهم
مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
ففي البيت الأول تفضيل للتأني على العجلة، وفي الثاني تفضيل للعجلة على التأني. ولقائل أن يقول في البيت الأول هو يقول: قد يدرك، وفي الثاني كذلك يقول: وربما؛ فالأمر يخضع لاختلاف الحال. ومع ذلك فلا تقف عند هذا الشاهد كثيرًا؛ فيوجد غيره الكثير والكثير في أمثالنا وقصصنا، وعند غيرنا كذلك من الأمر بالشيء وبضده؛ وعليه فالقصص والأمثال ليست كافية كي تكون محكماً عقلياً. وللأسف؛ فكثير من الناس قد امتلأ حكمة من خلال هذين الرافدين فقط (قصة ومثال)؟!
- الانحياز التأكيدي.
فنحن نهتم بالمعلومات التي تدعم توقعاتنا وما نذهب إليه، أو ما نريد تصديقه.
- سوء تقدير دور الفرصة والمصادفة في الحياة.
البعض لا يتطلع لتغيير الحال من خلال عرض ما لديه وما يتقنه؛ فهو لا يؤمن بلقاء أو علاقة تنقله من وضعية إلى أخرى. والبعض الآخر يشارك في اليانصيب، ويؤمن باليوم الذي تخبط فيه ناقته العشواء، فيفوز بلقب أغنى رجل في العالم بلا كد ولا نصب.
- القصور في تصور العالم من حولنا وإدراكه على غير حقيقته.
كل واحد منا في أي بقعة من الأرض له نظرة خاصة للعالم الخارجي. ولو عرضت نظرتنا لهم أو نظرتهم لنا لضحك بعضنا على بعض من هذه النظرة القشورية؛ فلا تتحمس كثيرًا حيال نظرتك للعالم حتى وإن كنت من هواة السفر؛ فحقائق الشعوب كامنة في جيناتها وفي يوميات أعمالها وخصوصيات علاقاتها الاجتماعية والثقافية التي لا تراها.
- المبالغة في التبسيط.
قد تكون المعلومات كثيرة أو معقدة حول مسألة من المسائل؛ فطبائعنا تميل إلى حذف كثير من المعلومات وانتخاب البعض الآخر بسبب أو بهوى، إضافة إلى محاولة رد أحداث كبرى أو صغرى لسبب أو سببين من دون تكلف البحث والجد. وفي ذهني وذهنك الكثير من محللي المجالس الذين يعلقون على منعطفات تاريخية، تمر بالأمة، بأنه أخبرنا من قبل، وأن السبب هو فلان؟!
منعطف تاريخي سببه فلان!
قضايا تربوية، وأخرى زوجية، وثالثة اقتصادية.. الجميع يشارك فيها بخبرة أو بعدمها؛ ليقول هذه المشكلة سببها الوحيد كذا، وحلها الوحيد كذلك كذا بلا برهان، وإنما هو الإيغال في التبسيط، وطرح عناء المسؤولية الكاملة عند درس القضايا أو تركها لمن هم أحق بها وأهلها.
- امتلاك ذاكرة مضللة ومحرفة للحقائق.
يقو ميلتون بيرل: «لدي ذاكرة فوتوغرافية، ولكني أنسى أن أزيل غطاء العدسة بين الفينة والأخرى».
هناك أبحاث عدة، تشير إلى أن الذاكرة قد تتغير، بل بإمكان المخ تصوير أحداث ورسم ذكريات لم تقع أصلاً، فذاكرتنا إنشائية، وتعيد بناء أحداث الماضي، ومع كل إعادة بناء يتم حذف مقاطع وإضافة أخرى فيما نسميه حديث الذكريات، فإذا ما قام أحدهم بكتابة مذكراته بأسلوب أدبي، وأخذ يحفر في ذاكرته، فهنالك تبنى ملاحم، وتهد حصون مما لا يوافق الواقع، لا في دقيق ولا في جليل.
ولك أن تتخيل الطبيب أو المهندس أو المربي أو طالب العلم أو الموجه أو عالم الاجتماع الذي تجتمع فيه هذه الأخطاء الستة التفكيرية أو أغلبها..؟!
لدينا نزعة ملحة في تصنيف الناس؛ فهذا ذكي، والآخر غبي، وهذا حساس، وذاك غضوب، وهذا يميل لهذه السياسة، والآخر لتلك، وهذا عالم، والآخر متعالم، وهذا صالح، والآخر مطوع بريدة.. ونسقط عليهم العديد من السمات فيما يعرف بالتنميط.. فهي أيقونات، تسهل علينا - بزعمنا - فهم الناس بأنماط جاهزة، نحشر أرواح الناس وأجسادهم فيها، ونوزعهم ما بين أصدقاء وأعداء، وننظر إليهم كمقربين ومبعدين..!! وهكذا التنميط من استراتيجيات التبسيط - كما يذكر توماس - وهو من أخطاء التفكير في بعض استعمالاته؛ فنحن نميل للتبسيط كي نفهم.. ويأخذ التبسيط صورًا عدة، منها التنميط؛ فإذا أصدرنا الحكم على فلان من الناس فهو حكم أبدي غير قابل للمراجعة، بينما شخصيات الناس أعقد مما يبدو لنا، ولستَ أيها المُنَمِط استثناء، بل أنت مُنَمط كذلك، وكثير ممن حولك قد حكموا عليك منذ زمن بعيد، فأنت حساس عند بعضهم، ولا مبالٍ عند البعض الآخر.. وهكذا كل أحد يعاملك على حسب طبعك الذي يراه، وحسب تصنيفه لك، فلا تجهد نفسك في التموضع كثيرًا، وتحاول أن تثبت براءتك، بل كن كما أنت بغض النظر عن القوالب التي وضعها الناس لك؛ فهي لا تنتهي، فإذا علمت أنك لو قضيت عمرك كله لتقنع فرداً واحداً بأنك على خلاف ما يرى لما رأى إلا ما يرى، ولم يعر اهتماماً بدفاعك عن نفسك.. أنت مُنمَّط ومُصنَّف وجاهز.. وقد وضعك في علبة ذات لون خاص، يجمع فيها كل أهل طبع على حدة، ورفعها على الرف، وانتهى!! فكيف إذا أردت أن تغير نظرة الجميع؟! فذلك هو الجنون بعينه.