رواية صادرة عن دار كلمات الكويتية في عام 2016 في ثلاثين وثلاثمائة صفحة للروائي الفلسطيني أدهم شرقاوي الذي يلقب نفسه بـ (قس بن ساعدة). لم تتجاوز شخوصها أسرة صغيرة وزملاء سجن، ولم تتجاوز المساحة التي تتحرك فيها محيط غزة الصامدة، كتبها بطلها (حمزة) من أحد معتقلات العدو الصهيوني. لكنها مع ذلك من أجمل ما قرأتُ في أدب السجون وفي وصف حياة الضنك التي يعيشها إخوتنا في غزة والمقاومة التي يبذلونها بكل ما أوتوا من قوة وحيلة..
يقول حمزة لخطيبته أسماء: «بدأت رائحة الحرب تفوح يا أسماء، والحديث عنها سيد الأحاديث، فحين تحضر الحرب يغيب كل شيء، هذه المدينة خلقت لتحارب، المدن كالبشر يا أسماء، كل واحد له وظيفة بدونها لن يؤدي دوره في الحياة كما يجب، والمدن كذلك، باريس تنتج العطور، نيويورك تنتج الأفلام، ريو دي جانيرو ترقص، مكة تصلي، أما غزة فتحارب! هي تعرف هذه الحرفة وتتقنها، وبها يعرفها الناس، غزة دون حرب كلاعب كرة قدم بعد الاعتزال، لا يحفل به أحد! ص99
كان حمزة ضمن مجموعة وهبوا أنفسهم لحفر الخنادق والأنفاق بحثاً عن طريق يوصل إلى لقمة عيش، وحليب أطفال شح وجودهما على ظاهر الأرض! يقول الراوي البطل لخطيبته أسماء: «لماذا علينا أن نثقب باطن الأرض كل يوم لنعيش؟! تخيلي أن البعض يحفرون بحثاً عن الآثار وعن حياة سابقة ونحن نحفر بحثاً عن حياة حاضرة» ص65-66
يخرج حمزة بعد زواجه بشهر من عش الزوجية ليصطحب جدته للعلاج في مستشفى في القسم المحتل من الوطن بعد أن ضاقت السبل لعلاجها داخل غزة أو خارجها. «حين يغلق أخوك بابه في وجهك تطرق باب عدوك المفتوح» ص153 فيلقى عليه القبض في الحدود بتهمة العمل في حفر الأنفاق بعد وشاية من بعض رفاقه، ويرسل للتحقيق الذي يسفر عن حكم بالسجن ثمانية أعوام.. «هؤلاء المرضى الذين باعونا لأعدائنا بالمال، عرفت وأنا أمشي يا أسماء صدق المقولة: القلاع الحصينة لا تسقط إلا من الداخل» ص 156
ثم تمضي صفحات الرواية على لسان بطلها حمزة لتتحدث عن حياة إخوتنا في غزة واستبسالهم في مقاومة العدو، وتحدي سجاني المعتقلات إلى أبعد مدى يخطر على بال القارئ، فقد رُزق حمزة وزوجته أسماء بمولودة رغماً عن قيود السجن، وبُعد المسافة بين غزة والمعتقل اليهودي بعد أن وافق حمزة على تنفيذ مقترح زوجه إنجاب طفل عن بعد. كانت مهمة حمزة تتلخص في تهريب نطفة منه في أنبوب زجاجي لتأخذها أسماء إلى أقرب مستوصف لزرعها في رحمها قبل أن تنتهي صلاحيتها تحت رعاية طبية بعد دراسة كافة الاحتمالات وتهيئة الظروف التي تضمن نجاح العملية. وهكذا يستغل حمزة زيارة زوجه ليسلمها الأنبوب الزجاجي في غفلة من أعين الحرس ليحتفل بعد ذلك هو وزملاؤه المساجين بنجاح مهمته نكاية في سجانيهم، وليشعلوا ليلهم طرباً بهذا النصر على العدو كما اشتعل بيت أسماء وأهلها وأهل زوجها فرحاً..
كل أحداث الرواية تأتي على لسان الراوي البطل (حمزة) وهو في المعتقل يخلو بنفسه؛ فيتصور أنه وجهاً لوجه مع زوجه أسماء فيحدث نفسه وكأنه يحادثها، أو على شكل رسائل يدسها في يدها في كل زيارة ليتلقى منها رسائل مماثلة. وأعتقد أن هذا الحرص الشديد على تدفق الرواية كشلال منهمر دون انقطاع هو ما حدا بالمؤلف أن يجنبها التجزئة، فلم يقسمها إلى فصول كما اعتدنا في الروايات!
الموضوع الرئيس للرواية هو (الحب) الحب المتبادل بين بطل الرواية ومحبوبته، وهو حب لا ينفصل عن حب وطنه الواقع تحت الاحتلال. يتزوج حمزة بأسماء ويحلمان بإنجاب الأطفال الذين لا يعدانهم أبناء لهما فحسب؛ بل أبناء للوطن كله وجنوداً من جنود مقاومة المحتل.. «إننا ننجبهم مدفوعين بغريزة البقاء والاستمرار، أكثر منا مدفوعين بغريزة الأمومة والأبوة، لا نربيهم بآمال الآباء وطموحات الأمهات المعتادة، لا ننتظر أن يكبروا ليحملوا شهادات المدارس والجامعات، بل لينالوا شهادة في سبيل الوطن.. فالطريقة الوحيدة التي نهزم بها الموت المستمر هي الولادة المستمرة» ص 135-136 .
يأتي الحديث والرسائل بلغة (رومانسية) في غاية الرقة وفي جو مفعم بالحب المتبادل بين الزوجين العاشقين. وكما ترق لغة الحوار بين الحبيبين تصفو لغة الرواية فنجد لغة راقية مهذبة وسرداً متماسكاً رصيناً وحوارات باللغة الفصحى رغم اختلاف أطراف الحوار ثقافة ومنشأ وتعليماً.. غير أن فيها استطراداً لقضايا كثيرة يكاد يخرجها أحياناً من عالم الرواية إلى كتاب أدبي أو فقهي أو علمي حين يتحدث عن بعض الأساطير المتداولة، أو عن شعراء الغزل الصريح وشعراء الغزل العذري، أو عن قضايا حقوق المرأة في الإسلام، أو عن موضوع التلقيح الاصطناعي.
يجيء الحوار بين صديقين من أصدقاء السجن هما د. (سامي) محاضر مادة الفكر الإسلامي المعاصر الذي يتمتع بثقافة عالية في كل مجال، و(فراس) اليساري حتى العظم، فيمتد الحوار عن تطبيق الشريعة أو الحدود في الإ سلام أو حقوق المرأة ليقتطع قدراً غير يسير من الرواية.
ويتحدث د. سامي إلى حمزة شارحاً ومبيناً عملية التلقيح الاصطناعي والوسائل الكفيلة بتجنب أي فشل في نجاح العملية بعد أن قرر حمزة وزوجه أن ينجبا بهذه الطريقة فيحتل هذا الشرح حيزاً آخر من الرواية.
وهناك حوارات أخرى، لكنها حوارات تثري الرواية كالحوار بين البطل وحبيبته عن الحب، وهل يفقد وهجه بعد الزواج؟ ص52
وتساؤل طريف: لماذا نسمي الخِطبة طلب يد؟ وليست طلب عين مثلا؟ يقول حمزة لأسماء: «ترى لماذا جُعلت اليد رمزاً لطلب الزواج؟ ألأن أيدينا هي أكثر أعضائنا قدرة على التشبث؟ ألأنها أكثرها قدرةً على اجتياز المسافة بين شخصين ومن ثم اختصارها؟ أم لأن فراغات الأصابع بينهما معدة خصيصاً لتملأها يد أخرى؟ لا أعرف ولكني أحب يدك، وأرغب في طلبها.. غير أني أرغب أكثر في طلب عينيك فهي أول مصيدة وقعت فيها وهي أكثر البحار التي يستهويني الغرق فيها وإن كان لي من أمنية قبل الموت فهي أن تكون عينيك آخر ما أراه من الدنيا». ص79
وأختم بهذا الحديث الجميل عن الحرب من وجهتَيْ نظر المواطن والمحتل. يقول الراوي: «لا تقلقي يا أسماء سنجتاز هذه الحرب أيضاً، كما اجتزنا التي قبلها، لا خيار آخر أمامنا، سنجتازها بخسائر جمة، وبجنازات كثيرة كما جرت العادة، ولكننا لن نجعلها نزهة لهم، سيقيمون جنائزهم أيضاً، ونحن كلما قُتلنا اشتد عودنا بينما هم كلما قُتلوا وهنوا، هذا هو الفرق بين صاحب الدار والدخيل عليها، نحن نقاتل لأجل أن نستعيد حقنا وهم يقاتلون كي يعيشوا فيها أكثر، حياتنا وسيلة وحياتهم غاية، وهذا ما يميزنا عنهم، وهي نقطة لصالحنا، فهم حين يقتلون منا يسلبوننا وسائلنا بينما حين نقتل منهم نسلبهم غاياتهم، لا شيء غير هذا يجعل الحرب موجعة بالنسبة إليهم! ص103 .
** **
- سعد الغريبي