إبراهيم عبدالله العمار
فكر في هذه الكلمة: لدانة. تعني شيئًا لينًا، أو مادة مرنة، يسهل تغيير شكلها، وقابلة للتشكل الذاتي. كلمة لا بأس بها، أليس كذلك؟ لكن هذه كانت كلمة ممنوعة في مجتمع علم المخ، من ينطقها تحل عليه اللعنات!
السبب أن العلماء ظلوا يظنون أن المخ ثابت، وأن كل من يقترح أنه يمكن أن يتغير في تركيبه فهو واهم، لكنَّ شيئًا فشيئًا بدأت الأدلة تظهر، التي بيّنت أن المخ فعلاً ليس جامدًا؛ بل هو مطواع، ولدن، ومطاط؛ يتغير ماديًّا بتغير التفكير.
الاكتشافات الجديدة عن لدانة المخ neuroplasticity أظهرت معلومات أكثر عن العقل وطريقته؛ فاللدانة أظهرت أن الأدوات التي يستخدمها الإنسان، كالأجهزة الرقمية والأدوات الزراعية والكتابية وغيرها.. كلها أثرت على المخ ماديًّا.. هي قوَّت بعض الدوائر العصبية، لكن أوهنت أُخَر.. قوَّت بعض الصفات العقلية، وتركت أُخَر تذبل.
خذ اللغة مثالاً: إن اللغة طبيعية؛ فالطفل يتشرب اللغة بلا تعليم. واعلم أن الكتابة ليست طبيعية؛ فالقراءة والكتابة تتطلبان التعليم والتمرن، تتطلبان التشكيل المقصود للمخ. والأدلة على عملية التشكيل هذه نراها في الكثير من الدراسات على المخ؛ إذ أظهرت الأبحاث أن دماغ القارئ غير دماغ الأميّ، ليس فقط في طريقة فهم اللغة لكن حتى في كيفية معالجة العقل الإشارات البصرية، وكيف يفكر منطقيًّا، وكيف يشكل الذكريات. تصوير المخ أظهر أن الأناس الذين نظام الكتابة في لغتهم يستخدم رموزًا مثل الصينية تتطور الدوائر العقلية الخاصة بالقراءة في عقولهم بشكل يختلف عن أناس يستخدمون الأبجدية النطقية كالعربية والإنجليزية.
الاختلافات في النشاط الدماغي وُجدت حتى في قرَّاء لغات ذات أبجدية أخرى، وليس بالضرورة ذات رموز وصور كالصينية.. فمثلاً قرَّاء اللغة الإنجليزية وُجد أنهم يعتمدون بشكل أكبر على مناطق في المخ متعلقة بفك شفرة الأشكال المرئية أكثر من الإيطاليين مثلاً. ويبدو أن هذا الاختلاف سببه أن الكلمات الإنجليزية تكتب بغير ما تُنطق، بينما في الإيطالية فإن الكلمات تنطق تمامًا كما تُكتب.
إنها حقيقة: مخك ليس ثابتًا كما وُلدت، بل يتغير ويتطور، ويستطيل كلما مرَّنته. مخك.. مطاط!