عبده الأسمري
في حضرة القرار استحضار لمسيرته وفي ذاكرة الإعلام استذكار لقيمته. خلف الملوك ومع الناس وأمام المايكروفون ارتبطت بصوته الأجيال وترابطت مع طلّته ذائقة المشاهدين..
إنه المذيع والإعلامي الكبير المستشار بالديوان الملكي الراحل سليمان محمد العيسى - رحمه الله - أحد أكبر المذيعين السعوديين في تاريخ الإعلام الفضائي السعودي وأشهر الإعلاميين في جهاز التلفزيون.
بوجه حنطي مستدير تعلوه «الرسمية» وتحفّه علامات «الكفاح» ومكملات «الطموح» مع تقاسيم نجديه وعينان واسعتان، وكاريزما تشع منها المسؤولية وتسطع فيها القيادة، وشماغ مرسوم بشكل منفرد ومتحد طيلة عقود، وصوت جهوري بلكنة عميقة وسكنة أنيقة لا تشبه غيرها، تضخ بالعبارات الملكية والاعتبارات الوزارية ومفردات الأوامر وموجبات القرارات، طل «العيسى» عقوداً على الشاشة الفضية مذيعاً أول وموجهاً أمثل ومدرباً أكمل، يخرج النشرات الإخبارية على طريقته الخاصة ويصنع المحتوى الفضائي وفق منهجه المنفرد.. فظل صوتاً ترفاً أصيلاً ارتبط بأحداث تنموية ومنعطفات تاريخية كان صوته «الشاهد « وقوله «الوقع الأخير».
في الرياض كان العيسى طفلاً يستمع لنشرات «المذياع» في منزل أسرته معجباً بالأصوات، متعجباً من الإنصات الذي كان يأسر روحه الباحثة عن «القول والخطاب»، وفي مدرسته ظل العيسى وجهاً للإذاعة المدرسية وموهبة طفولية توزع مهاراتها وسط إعجاب معلميه .. لمس فيه والداه الروح الأصيلة والنفس النبيلة فأخضعاه لتربية أسرية فاخرة وبذخ توجيهي نادر .. فظل يؤدي بروفاته «البريئة» الحالمة حتى تشكلت برهاناً قاطعاً ودليلاً ناصعاً على كفاءته وأدائه شاباً يافعاً يؤنس المجاميع بصوته ويستأنس بحلة ثقافية، طالما تلحّف بها رمزاً من رموز الإلقاء وأنموذجاً بشرياً عصامياً شق الفضاء الإعلامي بجودة الأداء وإجادة الدور وتجويد المحتوى.
تلقى العيسى تعليمه العام بالرياض محتفلاً بالمراكز الأول ونال بكالوريوس الآداب من جامعة الرياض عام 1388هـ، صعد سلم الإعلام بجد وود، حيث استهل حياته في بلاط صاحبة الجلالة محررًا بصحيفة الجزيرة ثم كاتباً بها فقدم صفحة «الجزيرة معهم» وزاوية «على الهامش» في نفس الصحيفة وعمل سكرتيراً للتحرير فيها.
ولأنه مسكون بالإذاعة عاشق لمنصات التقديم، اتجه إلى العمل بالتلفزيون منذ عام 1391هـ، وبدأ معلقًا رياضيًا، وتدرج حتى عين مستشاراً عاماً للبرامج ثم مديراً عاماً للتنفيذ ومشرفاً على المذيعين بالتلفزيون السعودي. أعدّ العيسى وقدم العديد من البرامج التلفزيونية، وكان من أبرزها برنامج «مع الناس» الذي استمر ربع قرن، وكان نافذة إعلامية شهيرة على هموم وتطلعات العامة وإيصالها لأصحاب القرار. وأعد عدة برامج رياضية وقدم نشرات الأخبار بالقناة الأولى السعودية، ورافق بعثات المملكة الرسمية، وقد ارتبط اسمه بإذاعة القرارات والأوامر المهمة. وعُيّن مستشاراً إعلامياً بوزارة الإعلام في عام 1420هـ حتى عام 1423هـ وعمل مستشارًا بالديوان الملكي.
أدلى العيسى بدلوه في كتابة الرأي فحضر كاتباً في عدة صحف وتشكلت صورته الإعلامية في رداء أدبي وصدى ثقافي، حيث أنتج ثلاثة كتب «من مدائن العقل» و»خالدون بدموع الحزن و»نسمات تحت وسائد الليل»، راصداً خلالها تضاعيف الحياة وتواصيف التجارب.
أكثر من أربعة عقود كان العيسى وجهاً جاذباً للعطاء وصدى متجاذباً مع البسطاء، قريناً للأخبار الرسمية مقترناً بنتائج الميزانية متقارناً مع بشائر النماء في نشرات «التحولات الوطنية».
ظل العيسى مرافقاً للوفود الرسمية بطلّة رسمية جمعت «مخزون خبرة» و»مداد كفاءة» و»عتاد معالي»، فاتكأ على رصيد مديد من ثقة «الملوك» ورأي سديد تقيد به تلامذته وأجيال الحقبة الذهبية الذين تخرجوا من «منهجيته» اللغوية ونهجه القولي ونتاجه «الأخباري».
رحل العيسى في أكتوبر 2012 بالمستشفى التخصصي بجدة بعد صراع شديد مع المرض إثر تعرضه لجلطة في الرئة، وووري جثمانه مقبرة العدل بمكة التي طالما أحبها وعشق تراثها وتجلت في حياته كمدينة مفضلة ووجهة محببة.
أبقى في قلوب الملايين أثر المهنة وآثار المهنية واستئثار المثالية ومآثر الإنسانية، في شخصية حلت واستحلت سجل الشرفاء ومعقل النبلاء لتظل إضاءات فكره وخبرته تنضب بالمواقف والوقفات.
وما إن تذكر سيرة المذيعين حتى يتربع اسمه متوشحاً أوسمة الذِّكر المعطّر بالإنجاز وحين تقاس موازين النتائج العملية بمحك «الكفاءات»، فإنّ الخانة الأولى وحدها من تجذب اسمه وعطاءه.