سليمان المنديل
بعد أن انتهيت من استعراض محطات رفقتي بالمرحوم الأخ الصديق جماز لم أكن أتصور كم كنت أنا محظوظًا، وعلى مدى (47) سنة، بمرافقة أخ شهد له الجميع بدماثة الخلق، والكرم. وهنا سأتوقف عند بعض المحطات التي ترافقنا فيها: -
* تزاملنا للدراسة في ولاية واشنطن خلال الفترة 1970 - 1974م. ولأن جـو الولاية مطير عشرة أشهر من السنة فقد قرر عـدد منـا البقاء في فترة الصيف هناك للتمتع بالرحلات إلى مناطق البحيرات والأنهار... إلخ، وكان المرحوم مسؤولاً عن طبخ الكبسة لعـدد لا يقـل عن (30) من الطلبة المتنزهين، في حين أن مسؤولياتي قد اقتصرت على تحضير الشاي.
* خلال تلك الفترة كان الطالب السعودي يستلم مبلغ 220 دولارًا شهريًّا (وهو ما تم التعارف على تسميته بشيك المنقور)، وكان الطالب في المتوسط يفلس بدءًا من الـ 25 من الشهر، بالرغم من أن سعر الهمبرجر كان 25 سنتًا، ولكن المرحوم أبا سلمان كان يحرص على أن يتعشى في مطعم فخم، كلفة وجبة الستيك فيه لا تقـل عن خمسة دولارات؛ ولذلك كان يفلس في منتصف الشهر. وبسبب هذه العادة المكلفة عـلـق أحد الظرفاء بأن المرحوم هو في الأصل من طبقة النبلاء الأوروبيين ذوي الدماء الزرقاء، ولكن القـدر قاده إلى القويعية في أواسط نجد!!!
* أيضًا من ذكريات تلك المرحلة أن المرحوم تعلم لعبة البلوت، وأصبح متعلقًا بها لدرجة أنه يأتي إلى كافتيريا الجامعة بحثًا عن طلبة ليلعب معهم، ولكن بسبب مستواه المبتدئ في اللعب كان زملاؤه يتطايرون عند رؤيته متذرعين بالدراسة.
* عـدنا من أمريكا في نهاية عام 1974م، وبدأنا العمل في (شهر واحد) بالصندوق الصناعي. وفي منتصف عام 1975م سافرنا سوية إلى نيويورك للتدريب في بنك تشيس، وسكنـا في العمارة نفسها، وعـدنا للصندوق سوية.
وفي منتصف عام 1977م تزوجنا، وسكنـا في العمارة نفسها، ثم في مجمع سكني للصندوق الصناعي، ولم يكن يفصل بيننا جـدار أو حاجز، وهناك وُلدت ابنته البكر سارة، وابني البكر هاني، في السنة نفسها.
* في عام 1980 انتقل المرحوم إلى مؤسسة النقد، وأنا انتقلت إلى وزارة المالية. وفي عام 1986م عملنا في لجنة واحدة لتأسيس سوق المال.
* كثير من الناس يربطون اسم المرحوم بإنشاء هيئة السوق المالية، وهذا صحيح؛ إذ إنه مؤسسها، وأول رئيس لها، ولكن ما لا يقـدره الكثيرون هو أنه، ولفترة (25) سنة، كان مراقبًا للقطاع المصرفي، وكان موظفًا غير تقليدي، يؤمن بالتقنية؛ فتبناها، وأدخلها للقطاع المصرفي، وقسرًا في بعض الأحيان؛ إذ إن بعض البنوك ذات الملكية الأجنبية كانت تحاول الارتباط تقنيًّا مع شركاتها الأم، حتى ولو أدى ذلك إلى صعوبة تخاطبها
مع باقي البنوك السعودية، ولكن المرحوم أصر على نظام تقني متقدم، موحَّد، حتى أنه رفض السماح للبنوك باحتساب رسوم على استخدام العملاء مكائن الصرف الآلي؛ وذلك رغبة في تشجيع العملاء على استخدام النظام الآلي.
واليوم نجد أن النظام الآلي لدى البنوك السعودية هو الأحدث على مستوى العالم كله.
كل ذلك حدث - وكما قلت - لأن أبا سلمان لم يكن موظفًا تقليديًّا.
* أيضًا من إنجازات أبي سلمان تأسيس المعهد المصرفي في مؤسسة النقد، الذي خـرَّج كوادر جيدة لخدمة القطاع، ولكن بدلاً من أن يصبح المعهد جامعة مختصة بالمجال المصرفي نجد أن أداء المعهد قـد قـلَّ وخـبا؛ بسبب عـدم وجـود قائد يماثل المرحوم في تصميمه وعزمه.
* وبذلك نرى أن المرحوم قد حـقـق إنجازَين رئيسيًّين لوطنه: في المجال المصرفي، وفي سوق المال، وكان أحـدهما كافيًا لتخليد ذكراه.
* أما في المجال الشخصي والاجتماعي فـقـد بقي أبو سلمان كريمًا، مضيافًا، متميزًا لأصدقائه الكُثر.. واليوم نجد الأصدقاء أنفسهم مكلومين لفقـدان الأخ الحبيب، دمث الأخلاق.
رحم الله أبا سلمان، وأسكنه الجنة.. والعزاء لزوجته الفاضلة عواطف بنت سليمان بالغنيم، وسارة، ورزان، ورنا، وسلمان. أما أنا فأعتبر نفسي محظوظًا؛ لأنني حظيت برفقته كل تلك السنين.