د. محمد بن يحيى الفال
قرار الموافقة على البدء بإصدار تصاريح للراغبين في فتح دور للعرض السينمائي في المملكة مع حلول السنة الميلادية القادمة، جاء كخبر مفرح طال انتظاره بعد إقراره من مجلس إدارة الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع، الذي يترأسه معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عواد صالح العواد. القرار أوضح كذلك بأنّ التصاريح سوف يتم إصدارها بعد ثلاثة أشهر من إعلانه، وذلك لوضع كل اللوائح والضوابط المتعلقة بتنظيم العروض العامة المرئية والمسموعة في المملكة. ولو عدنا إلى الوراء بالزمن لوجدنا بأن العروض السينمائية في المملكة لها تاريخ ممتد بدءاً مع البدايات الأولى لتوحيد المملكة في الثلاثينات من القرن المنصرم، ولتبلغ أوج وأزهي فتراتها في حقبة السبعينات الميلادية من القرن الماضي، حيث انتشرت الكثير من دور العرض السنيمائية في أغلب مدن المملكة وإن كان أغلب تلك الدور لم تكن مرخصة أو تخضع إلى رقابة حقيقية، وللحقيقة كان بعضها يقوم بعروض لا تناسب ثقافة المملكة، مما جعل البعض تترسخ في مخيلته صورة سلبية عن العروض السينمائية، وهو أمر يجب إعادة النظر فيه بتغير الظروف وكون العروض المرتقبة ستخضع لمعايير رقابية ومهنية مشددة، ومع قول ذلك فقد كانت هناك عروض سينمائية وقتها كجزء من نشاطات مراكز الخدمة الاجتماعية التابعة للدولة كما هو الحال في مركز الخدمة الاجتماعية بالمدينة المنورة، والذي مازال قائماً مبناه حتى يومنا هذا في شارع السكة الحديد، فقد كان بالفعل مقراً يُحتذي به من تقديم عروض سينمائية مُلتزمة بثوابت البلاد بين الفينة والأخرى، وذلك إضافة للخدمات الأخرى كالتطعيمات اللازمة للأطفال والتي كان مركز الخدمة الاجتماعية يقدمها من خلال المركز الصحي الذي كان مرفقاً به. أربع عقود تقريباً خلت منذ آخر عروض سينمائية عامة في المملكة، وجاء القرار بالتصريح لها مره أخرى وليضع حداً لمخاوف بعض أطياف المجتمع غير المبررة عن السينما, وبالرجوع إلى تجارب سابقة من تخوفات البعض حول قضايا اجتماعية أثبت الوقت عدم صوابها، ولتضع النتائج الإيجابية على أرض الواقع الأمور في نصابها ومحلها الصحيح، ومثال ذلك قضية تعليم البنات والبث التلفزيوني في بدايته (رحم الله الجميع وغفر لهم)، وكذلك ما أشيع من ضجة اجتماعية عند البدء في انتشار الأطباق اللاقطة لبث القنوات الفضائية، وبأنها سوف تفسد الأخلاق وغير ذلك من المبررات، وعندما ننظر اليوم لأسطح النازل بالكاد نرى منزلاً يخلو منها. وعليه فمن الأهمية بمكان إسقاط نتائج التجارب السابقة في القضايا الآنفة الذِّكر، على ما قد يجول في بعض أذهان البعض بخصوص التصريح بالعروض السينمائية، لنرى بأنّ تخوفاتهم لا مبرر لها على الإطلاق. ومع قول ما سبق، فهناك ثلاثة محاور رئيسة تمثل قيمة مضافة لصواب قرار التصريح بالعروض السينمائية بالمملكة وهي محور الترفيه والرقابة الذاتية، محور السينما كقوة ناعمة للتعريف بالمملكة وثقافاتها للعالم ومحور السينما كصناعة لمواجهة الصور النمطية عن العرب والمسلمين. بالنسبة لمحور الترفيه والرقابة الذاتية، فعلينا أن ننظر للسينما كنوع من الترفيه البريء لكل شرائح المجتمع من عائلات وشباب وأطفال وكما هو الحال حين يرتادون الحدائق العامة، إضافة إلى أنّ الذهاب لمشاهدة فيلم سينمائي بصحبة الأطفال وبتوجيه من العائلة سوف يبني فيهم ومن سن مبكرة مبدأ الرقابة الذاتية (Self Censorship)، ولما هو مسموح به أن يشاهدوه وما هو غير مسموح، خصوصاً ونحن نعيش في عالم مفتوح الفضاء وباختراعات متسارعة لا تقف عند حد في وسائل وتكنولوجيا الاتصالات بما فيها الهواتف الذكية والتي أضحت في متناول حتى الأطفال في سن مبكرة جداً، ولتجعل الرقابة الرسمية على ما يُشاهد في الفضاء الإليكتروني ضرباً من المستحيل، ولتكون الرقابة الذاتية والتي توفرها المشاهدة الجمعية تحت رقابة العائلة في دور السينما هي البديل العملي والحل الأمثل لنشأة جيل يخوض بنفسه تجربة مشاهدة عامة تربيه على القيم الواحدة التي يلتزم بها المجتمع، ويستفيد منها في إثراء خياله ومعرفته بالعالم بطريقة صحيحة، عوضاً عن الانزواء لمشاهدة ما ليس منه نفع وبأضرار نفسية وصحية جمة. وفيما يخص المحور الثاني، فإنّ التصريح بالعروض السينمائية سوف ينتج عنه نشأة محليه لصناعة الأفلام السينمائية والتي تعتبر قوة ناعمة لكل دولة، ولمقدرتها في تشكيل اتجاهات جديدة وإيجابية عن بلادنا في الرأي العام العالمي، وذلك بالتعريف بقيمنا وثقافتنا والتي يجهلها الكثير كونها غير حاضرة في عالم السينما، وهو الأمر الذي نتج عن غيابه ولعقود عديدة تكوُّن فكرة في غاية السلبية عن بلادنا، ولعل ما يثلج الصدر بأن صناعة السينما المرتقبة في المملكة لن تبدأ من المربع الأول خصوصاً فيما يتعلق بالعنصر البشري والمهم لهذه الصناعة، وذلك بوجود العشرات من المختصين والمهتمين بصناعة السينما من الجنسيوالذين أنتجوا العشرات من الأفلام القصيرة والطويلة، وحصل بعضهم ومن خلال جهود شخصية على جوائز تقديرية في محافل دولية، ومن ذلك وعلى سبيل المثال حصول المخرجة السعودية ريم البيات على جائزة أفضل إخراج بمهرجان ميلان عن فيلمها «أيقظني»، وتمكُّن المخرجة هيفاء المنصور من الوصول إلى مرحلة متقدمة في المنافسة خلال فعاليات أكاديمية العلوم والفنون الأمريكية في عام 2013 عن فيلمها «وجدة». ومحور الصورة السلبية عن العرب والمسلمين في السينما هو محور ذو شجون ومتشعب، وتطرقت له الكثير من الدراسات الأكاديمية والمقالات العلمية، والتي تؤكد بأنّ صناعة السينما الغربية تقدم العرب والمسلمين في صور سلبية نمطية، فالرجال إما مليونيرات وإما إرهابيون، والمرأة إما راقصة وإما مضطهدة. وهناك قائمة بالأفلام التي نحت هذا المنحى في تقديم العرب والمسلمين للجمهور الغربي، فمثلاً فيلم علاء الدين الكرتوني الشهير تبدأ مقدمة الفيلم بأغنية، تقول كلماتها «جئت من بلاد، بلاد في مكان بعيد، حيث تتجول القوافل، وحيث يقطعون أنفك إذا لم يعجبهم وجهك، إنه عمل بربري لكن رويدك فهيا وطني». وفيلم الرجل الحديدي يصور المرأة المسلمة بأنها مضطهدة، لا حول لها ولا قوة، ويظهر مقطع من الفيلم الرجل الحديدي في مهمة في باكستان حيث يقتحم مصنعاً لنساء يتم استغلالهم بالعمل بالسُخرة ويهتف صائحاً «نعم أنتن أحرار، إن لم تكُن كذلك سابقاً. الوطني الحديدي في مهمة لتحقيق ذلك وسعيد لمساعدتكن، ولا حاجة لكنّ في تقديم الشكر لي». ومثل هذه الصور السلبية عن العرب والمسلمين في عالم السينما ذات المقدرة الفائقة على تشكيل الرأي العام نحو الآخر المختلف، تحتاج إلى مواجهة من خلال السينما نفسها، وبصناعة سينما محلية منطلقة من حقائق كون بلادنا مهبط الوحي وأصل العروبة، سوف تكون الفرص مواتية لإنتاج أفلام بمستوى عالمي لتعريف الرأي العام العالمي بقيمنا المجهولة أو السلبية لدي غالبيته. الفراغ الذي مثل غياب السينما لدينا كصناعة للتعريف بقيمنا وموروثنا الحضاري الذي نعتز ونفخر به، كانت نتيجته أن تُرك للآخرين بأن يملأه حسب أجندتهم الذاتية والتي في غالبيتها سلبية وفي أحسن أحوالها مشوهة. المملكة وبتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وبطموحات سمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان ماضية قدماً في تحديث وتطوير المجتمع في كل المجالات وبما لا يخالف الشريعة الإسلامية،والتي تتفق القيادة وشعبها بأنها مصدر لفخرنا واعتزازنا وقوّتنا، وبأننا جزء من هذا العالم نتفاعل معه بما لا يتعارض مع ثوابتنا الدينية، وليس لدينا ما نخافه أو نخفيه.