سلمان بن محمد العُمري
أعلى الحقوق وأعظمها هو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين، فلقد أورد الله عز وجل الإحسان للوالدين بعد العبادة وذلك لعظم شأنهم عند الله قال تعالى: (وَقَضَى ربّك ألا تَعبُدوا إلا إِيّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانا) ومهما وصل بنا الحال في بر والدينا فلن نصل ولا لجزء بسيط ممّا قدّموه لنا من تضحيات، وكلما سمعت أو قرأت عن حادثة من حوادث العقوق في مجتمع إسلامي تكدرت لذلك فهي مع المخالفات الشرعية وما جاء في التحذير منها في القرآن الكريم والسنة النبوية فهي مخالفة للفطرة السوية، ولذا فلا عجب أن تجد من غير المسلمين من ترك مشاغله ليتفرغ لوالديه ويقوم على شؤونهما في حين أن بعض المسلمين انتكست فطرته وخالف هدي شريعته وقابل الإحسان بالإساءة أو النكران، قال أبوالليث السمرقندي: لو لم يذكر الله تعالى في كتابه حرمة عقوق الوالدين، ولم يوص بهما، لكان يُعرف بالعقل أن خدمتهما واجبة.
وإن الله سبحانه وتعالى ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقاً لوالديه ليعجل له العذاب, وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيد براً وخيراً، وهذا مشاهد ومحسوس فما من عبد وفقه الله في دينه ودنياه إلا وكان لرضا الله عنه في بر والديه نصيب كبير من ذلك وهذا في الدنيا وما عند الله أعظم من ذلك يوم القيامة.
وقد جاءت الآيات البينات والأحاديث النبوية الشريفة حاثة على البر والصلة والإكرام للوالدين ومحذرة من القطيعة والإساءة لهما، فقد قال تَعَالَى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُلِّ مِنَ الرّحْمَةِ)، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اثنانِ يُعجِّلُهما اللهُ في الدنيا: البغيُ، وعقوقُ الوالدَينِ». أخرجه البخاري في الأدب المفرد. وصححه الألباني ففي هذا الحديث يحذر النبي من خصلتين؛ البغي وهو الظلم، وعقوق الوالدين، وأن مرتكبهما يعجل الله له العقوبة في الدنيا. فحذار من الإقدام على هاتين الخصلتين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان، ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة. رواه أحمد ومسلم والترمذي. والمعنى: لصق أنفه بالتراب كناية عن حصول الذل، وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي وجه الله والدار الآخرة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل من والديك أحد حي؟ قال: نعم بل كلاهما، ولقد تركتهما يبكيان. قال فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك ففيهما فجاهد أحسن صحبتهما وأضحكهما كما أبكيتهما. وأبى أن يبايعه.
الجهاد في سبيل الله؛ ذروة سنام الإسلام؛ لأن فيه إعلاء لكلمة الله، وبه يعلو المسلمون على أعدائهم، ومع ذلك منعه النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأجر العظيم وأمره بلزوم والديه وبرهما.
وقد أدرك السلف ما في بر الوالدين من أجر عظيم وبركة وخير في الدنيا والآخرة فتنافسوا في بر والديهم أحياءً وأمواتاً فالبر بهما لا يقف على حياتهما فقط، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبر من كان في هذه الأمة بأمهما: عثمان بن عفان، وحارثة بن النعمان، فأما عثمان، فإنه قال: ما قدرت أن أتأمل أمي منذ أسلمت. البر والصلة لابن الجوزي (1-85)، وعن موسى بن عقبة، قال: سمعت الزهري، يقول: كان أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البر بأمه حتى قيل له: إنك من أبر الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة، فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. البر والصلة لابن الجوزي (1-86)، وعن زرعة بن إبراهيم أن رجلاً جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال: إن لي أماً بلغ بها الكبر وإنها لا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها وأوضئها وأصرف وجهي عنها فهل أديت حقها قال: لا. قال أليس قد حملتها على ظهري وحبست نفسي عليها. فقال عمر: إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك وأنت تتمنى فراقها. بر الوالدين لابن الجوزي، وكان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً، وما رفع صوته عليها، كان يكلمها كالمصغي إليها, ومن رآه عند أمه لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها، وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي وبت أغمز رجل أمي وما أحب أن ليلتي بليلته.الزهد لأحمد بن حنبل(120) .
ولم يقف البر بهما على الإحسان إليهما في حياتهما والدعاء والاستغفار والصدقة عنهما بعد وفاتهما بل أعظم من ذلك في الإحسان والبر لودهما من قرابة وأصحاب فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه، إذا مل ركوب الراحلة وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، إذ مر به أعرابي، فقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى. فأعطاه الحمار وقال: اركب هذا، والعمامة، قال: اشدد بها رأسك، فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تتروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه، بعد أن يولي». وإن أباه كان صديقا لعمر. أخرجه مسلم.
رحم الله السلف فقد أدركوا عظم الثواب للبررة وشديد العقاب للقاطعين، فاللبيب العاقل من يحرص على بر والديه دوماً وخاصة الكبر لاحتياجهما للرعاية، والمفرط المخذول المحروم من جافى والداه وتعرض لدعوتهم عليه وهي دعوة مستجابة.
اللهمّ ارزقنا بر والدينا أحياءً وأمواتًا. برحمتك، يا أرحم الراحمين.
(رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا).