د.عبدالله مناع
في زمن الرئاسات الأمريكية العظيمة.. ورغم الانحياز الأمريكي الدائم وغير المبرر لـ (إسرائيل).. إلا أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية كانت تلتزم بـ (مبدأين) تجاه الفلسطينيين والقضية الفلسطينية عموماً: عدم الاعتراف بـ (المستوطنات) الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والثاني: عدم الاستجابة لرغبة إسرائيل في نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى (القدس) الشرقية المحتلة عام 1967م، وأحسب أن لهذين الموقفين، ولما سمي بـ(الصداقات) العربية الأمريكية.. كان الفلسطينيون يقبلون بـ(الوسيط الأمريكي) في إدارة مفاوضات السلام مع الطرف (الإسرائيلي)، أو في رئاسة اللجنة الرباعية المعنية بـ(محادثات السلام) بين الطرفين، واثقين من أنه في النهاية لن يُعترف بكل هذه المستوطنات الاسرائيلية في الأراضي الفلسطينية حسب المرحلة الثالثة والأخيرة من (اتفاق أوسلو)، الذي فاوض الفلسطينيون الإسرائيليين عليها طوال دورتي الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، دون الوصول إلى (الحل النهائي)، وكان أشهر تلك المفاوضات: المفاوضات الماراثونية التي قادها ثاني وزراء خارجية أوباما (جون كيري)، مطمئنين - أيضاً - أنه لن يستجاب إلى الإلحاح الإسرائيلي بـ(نقل) السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى (القدس).!!
وقد جرى تطبيق هذا العرف الأمريكي في السياسة الخارجية طوال الرئاسات الأمريكية التي تعاقبت على البيت الأبيض خلال سنوات النصف الثاني من القرن العشرين: من (ايزن هور) في الأول من نصفه الثاني إلى (أوباما) في مطلع القرن الواحد والعشرين حتى مع أولئك الرؤساء - الجمهوريين منهم على وجه الخصوص - الذين تأتي بهم الانتخابات الأمريكية - كيفما اتفق - وهم لا يعلمون ولا يعرفون عن السياسة شيئا: كـ(جيرالد فورد) مثلاً، الذي كان يسخر الساسة الأمريكيون منه وهم يصفونه بأنه يشبه الساعة (الرادو) اليابانية الشهيرة التي: (لا تقدم.. ولا تؤخر)..!! أو كـ(رونالد ريجان) الممثل السينمائي، الذي كان يعرف في السينما بأكثر مما كان يعرف في السياسة، أو (جورج بوش) الابن الذي كان يعرف في (السياحة) وسباقات السيارات أكثر مما كان يعرف في السياسة، ومع هذا التواضع في معرفتهم السياسية إلا أن أحداً منهم لم يجرؤ على تغيير أي من (المبدأين) الذين اعتمدتهما السياسة الخارجية الامريكية: عدم الاعتراف بـ(المستوطنات) الاسرائيلية غير الشرعية.. وعدم تأييد (نقل السفارة الأمريكية) في إسرائيل من (تل ابيب) إلى (القدس)، إلى أن جاء المرشح الجمهوري للرئاسة: (دونالد ترامب).. الذي فاجأ الجميع بـ(وضع) نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى (القدس) - وهو أمر يفترض أنه لا يعني الناخب الأمريكي من قريب أو بعيد - في صدر حملته الانتخابية: ليعلنه في آخر شهور سنته الأولى في البيت الأبيض - في الخامس من شهر ديسمبر الجاري - ليقف العالم كله ضده، وضد هذا (العزم) الذي لن يتحقق لـ(عدم شرعيته)، فـ(أرض) القدس.. ولم تكن هناك (شرقية) ولا (غربية).. بل (قدس) واحدة، إلى أن استغلت (إسرائيل) الأوضاع العربية المضطربة بعد نكسة يونيه 1967م التآمرية.. لتتقدم لاحتلال (القدس).. وكأنها تقوم بـ(نزهة) برية.. إلى أن جاءت فيما بعد حكومة (بيجن) الأكثر تهوراً وجنوناً.. لتعلن عن ضمها إلى (إسرائيل) في السبعينات الميلادية بصورة نهائية.. وكـ(عاصمة) أبدية لإسرائيل..!!
* * *
لقد ثارت ثائرة العرب والمسلمين على قرار (ترامب) الذي أعلن عن (عزمه) نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) على أراضي تقسيم 1947م اليهودية إلى (القدس).. أو أراضي التقسيم العربية، وتنادى وزراء الخارجية العرب إلى لقاء لهم في (القاهرة) لاتخاذ موقف موحد ربما ليحذر - في اعلى درجاته - من المقاطعة الديبلوماسية العربية لـ(امريكا).. ويجبر (ترامب) على التراجع عن قراره - أو عزمه - وهو ما لا أظن أنه سيقدم عليه، او ان يتراجع ويسمي (القدس) التي قصدها بـ(الغربية) وليست الشرقية، لكن لو أنه أراد ذلك لكان أشار - من البداية - إلى أن (القدس) المعنية في هذا القرار هي (القدس الغربية)، والتي بنتها اسرائيل شيئا فشيئا على مدى سنوات (الاغتصاب) فـ(الاحتلال) التي نافت عن الخمسين عاما، وليست القدس القديمة - أو الشرقية - التي تحتوي على: (الحي المسلم) و (الحي المسيحي) و (كنيسة القيامة) و(الحي الأرمني).. إلى حائط البراق.. إلى المسجد الأقصى وقبة الصخرة)، ولكان كفى بذلك المؤمنين شر القتال، كما يقولون! أو الاختلاف معه) ولكنه أراد أن يمكن لـ(إسرائيل) من اغتصاب بقية فلسطين بـ(الاستيلاء) على عاصمتها التاريخية: القدس الشرقية أو (القديمة).
وقد تنادى المسلمون أيضاً على مستوى زعمائهم إلى (قمة طارئة) في (اسطنبول) لاتخاذ موقف من قرار ترامب الذي رفضوه بـ(الاجماع)، وأعلنوا ان (القدس الشرقية) هي عاصمة الدولة الفلسطينية القادمة..!
* * *
على أي حال.. لم أكن متفائلا بـ(اجتماعات) وزراء الخارجية العرب، لمعرفتي بأن ظروف (العرب) السياسية والاقتصادية ومصالحهم التي قد لا تمكنهم من اتخاذ تلك المواقف الجادة والحادة.. او تلك المواقف الصعبة كـ(التحذير) من المقاطعة الديبلوماسية اذا لم يرجع الرئيس (ترامب) عن عزمه نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى (القدس).. وهو ما ينطبق - بكل اسف - على الحالة الاسلامية.. التي ليست بأفضل من الحالة العربية. فكلاهما في (الهم) شرق كما يقولون!!
لكن ما حملني على بعض التفاؤل هو امتداد رفض قرار الرئيس (ترامب) بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.. إلى الدول الأوروبية الكبرى - الصديقة للولايات المتحدة الأمريكية - كـ(بريطانيا) و(فرنسا) و(كندا) و(ألمانيا) أو الدول المنافسة لها كـ(روسيا الاتحادية)، التي أعلنت جميعها رفضها لـ(القرار)، والعمل على الغائه من خلال الدول المعارضة له ومجلس الأمن، وقراراته السابقة بشأن (القدس)..!!
* * *
كأن الرئيس ترامب في موجة حماسه الطاغية لـ(إسرائيل)، أو (الخوف) من قضية التجسس الروسي على الانتخابات الأمريكية الأخيرة، التي جاءت به إلى البيت الأبيض والمثارة ضده قد نسي ترتيب وعوده الانتخابية التي كان قد اطلقها قبل الوصول إلى البيت الأبيض، والتي تبدأ بـ(مكافحة الارهاب) المتمثل في (داعش) أو دولة الإسلام في العراق والشام حتى اجتثاثه، ثم تأتي بعدها: مسألة نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى (القدس) وليس العكس، وكما فعل الرئيس ترامب، وهو ما سيفتح الأبواب إلى إرهاب وطني وقومي وديني جديد.. قد يكون أعنف من كل ما سبق، وهو ما قد يعيد - في النهاية - إلى الوجود.. سياسة المحاور والمعسكرات: معسكر اليمين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، ومعسكر اليسار الاشتراكي بقيادة روسيا الاتحادية، اللذان يتربصان ببعضهما البعض..!