أ.د.عثمان بن صالح العامر
عاطفياً من الطبيعي جداً أن نتحدث في يوم اللغة العربية العالمي عن عربيتنا بكل فخر واعتزاز، نكتب عنها المقالات والتغريدات، ننظم فيها الشعر ونقرضه، نتوجد على ماضيها التليد ونحزن لواقعها البليد، نهاجم العامية ونشجب دعاتها، نقول لطلابنا إن إقصاء العربية من ميادين الحياة المختلفة مؤامرة خبيثة أريد منها إضعافنا وإبعادنا عنوة عن مصدر عزنا وسبب سيادتنا وعلو مجدنا في دنيا الناس، نعم نفخر ونفاخر بأننا أصحاب لسان عربي مبين، وحق لنا أن نتباهى بذلك، كيف لا، وهي اللغة التي خاطب بها الرب أهل الأرض قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، كيف لا، وهي اللغة التي نطق بها خير البشرية على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، لغة خير القرون توارثوها جيلاً إثر جيل.
عقلياً اللغة لا تعدو أن تكون الوعاء الناقل للحمولة القيمية والفكرية والعلمية التي تتميز بها أمة عن أخرى، ومن ثمّ فمتى كان لدينا من القيم الحياتية والثراء الفكري والمنجزات العلمية ما يستحق أن تشرئب له أعناق العالمين الداخلي والخارجي فستعود للغتنا القوة المنشودة والحضور الفعلي والتوسع والانتشار الدولي.
نعم إننا في يوم اللغة العربية العالمي نتطلع إلى أن يكون هناك براءة اختراع بمسمى عربي وتشرح بلغة القرآن الخالدة، علاج لمرض مزمن بعقلية عربية وله اسم عربي وطريقة تناول مكتوبة بالعربية، نظرية علمية جديدة سياسية أو اقتصادية أو في علم الاجتماع أو النفس أو الإعلام ذات صبغة عربية صرفة، بهذا ستكون الحمولة ثقيلة، وسيضطر الغرب إلى التحدث إلينا باللغة التي نريد، كما كان حالنا عندما كنا أصحاب حضارة عالمية وحضور مؤثر، الأمر الذي جعل سلاطين وملوك وأمراء الغرب في عصوره الوسطى المظلمة يبعثون أبناءهم إلى حواضرنا الثقافية ليتعلموا اللغة العربية ويكتسبوا قيمنا الحياتية.
قطعاً لدينا الشيء الكثير الذي يمكن لنا أن نقدمه للعالم بلغة عصرية سهلة وميسرة خاصة في باب القيم والأخلاق التي هي قاسم إنساني مشترك، وطوق نجاة للجميع، ولكن هذا الموروث القيمي المحفوظ لا يمكن أن ينفذ للذهنية العالمية إلا إذا كان سلوكاً معيشا عندنا يحاكيه الآخرون ويحاولون اكتسابه، حينها سيكون السؤال عنه والتخاطب والحوار حوله، أما أن يكون مجرد حبر على ورق فلن يغير من موازين القوى اللغوية في عالم لا يعرف إلا لغة القوة أياً كان نوعها ومهما كان مصدرها.
إننا حين نملك زمام المبادرة وتكون لدينا القوة والمنعة سياسياً واقتصاديا وعلمياً وفكرياً وأخلاقياً فستكون لغة التواصل والحوار على طاولة المفاوضات «العربية»، وستدوّن المحاضر وستكتب التقارير والمخاطبات والمذكرات والدساتير «بالعربية»، وسيبحث الساسة والاقتصاديون والإعلاميون الغربيون والشرقيون عن المترجمين للعربية، أو أنهم هم من سيتعلم العربية ليستحقوا أن يشغلوا المناصب التي سيكون شرطها الأساس إجادة اللغة العربية.
إنني هنا لا أقلل من شأن هذا اليوم العالمي هذا، بل أفخر به وأفاخر، خاصة أننا نعيش عصر العولمة الصعب الذي بُشر في مطلعه بموت لغات عدة عمّا قريب، ولكنني - وأنا في مقام التمني - أحاول أن أنشد الهمم وأستحث القوى، وأشارك في بعث الإرادات تواقاً إلى أن يكون لنا في يومنا هذا الذي نحتفل فيه تطلّع لغد جديد واستشراف لمستقبل واعد تصبح فيه عربيتنا فاعلة خلاقة ومؤثرة، بناءة عالمياً وإنسانياً، حينها ستكون لغة القرآن الخالدة منافساً حقيقياً للغات الدولية الحية خاصة اللغة الإنجليزية التي فرضت نفسها بحمولاتها التي لا تخفى، حينها سيكون احتفالنا احتفال قوة ومنعة وفاعلية وتأثير، لا احتفال تشريف ووجود وضمان بقاء. دمتم بخير، وإلى لقاء والسلام.