عمر إبراهيم الرشيد
خرجنا مساءً أنا وبعض إخوتي وأبناء الجيران متجهين إلى السينما التابعة لنادي الجبلين في مدينتي الوادعة بين أحضان أجا وسلمى، كان ذلك منتصف السبعينيات الميلادية، وهناك شاهدت لأول مرة فلما سينمائياً أو فلماً على الإطلاق لأن التلفزيون لم يكن متوفراً حتى عام 1978 حين أنشئت محطة التفلزيون وبدأت البيوت في اسستقبال ما تعرضه الشاشة الصغيرة تلك السنة. ولم تكن تلك السينما هي الوحيدة في حائل إذ كانت هناك أخرى في نادي حاتم الطائي، وكان هذان الناديان يقدمان هذه الخدمة الترفيهية للمجتمع الحائلي كباقي مدن المملكة حينها إذ كانت النوادي الرياضية هي من تقدم هذه الخدمة مع بعض دور العرض الخاصة، في ظل غياب دور السينما، إنما كانت تملأ هذا الفراغ، حتى أغلقت تلك الشاشات الكبيرة نهائياً واختفت من مدن المملكة بداية عام 1980م ولا أريد الاسترسال في شرح أسباب وتداعيات ذلك لأن مقالاً لايسعه. مازالت مشاهد بصرية وسمعية تتداعى إلى ذاكرتي في فترة طفولتي تلك، فترة السبعينيات حين كان المجتمع والوطن يخطو بهدوء وتأدة نحو نهوضه، ومدينتي غافية في أحضان جبالها ببيوتها الطينية وبساتينها وصفاء سمائها وطيب هوائها.. ومازلت أتذكر مرة أننا لم نكمل مشاهدة الفلم في السينما وخرجنا عائدين ليلاً إلى بيتنا مشياً بطبيعة الحال، فكان يتناهى إلى أسماعنا ونحن نسير بعض حوارات الفلم والموسيقى نتيجة هدوء المدينة وبداية غفوتها ونومها الهانئ، حتى عندما صعدنا إلى سطح منزلنا الطيني لنخلد إلى فرشنا ونستسلم لنومنا كانت تتناهى إلى أسماعنا أصوات الفلم مع هبات النسيم العليلة.
الآن والسينما تستعد للعودة إلينا بصورتها العصرية بعد حضر لحوالي أربعة عقود من الزمن، مقدمة ليس لوناً من ألوان الترفيه فحسب، بل وسيلة راقية للم شعاث شوارعنا الهادرة وتوفير وقت للشباب والكبار كذلك وأفراد العائلة لقضاء وقت خارج جدران المنزل، وسيلة ترفع من ذائقة الجمهور وحسهم الاجتماعي والفني والثقافي. والسينما كما هو معروف ليست مجرد متابعة لفلم يختاره من يرتادها، إنما هي رحلة قريبة لها أجواؤها وما يصاحبها من مأكل أو مشرب وانفاق معتدل للحصول على رحلة ترفيهية غير مكلفة، وطرد الملل والتخفيف من ضغط أعباء الحياة. وحين أقول إنها وسيلة للتثقيف ورفع الذوق والوعي الإنساني فإني أعني ما قلت، لأن هناك أفلاماً تسهم في ذلك وأخرى تهدم وتفسد، فخلف هذه الصناعة شركات وأفراد ومنظمات ودور سينما لها سياساتها التجارية أو الآيديولوجية أو الثقافية كما نعلم، لكن لدينا نحن الخلفية والمعايير الحضارية المفترضة للتمييز وحسن الاختيار. والسينما إنما هي امتداد للمسرح وشكل من أشكاله، وهي تعزيز للكتاب بأشكاله وألوانه واتجاهاته من سير ذاتية وتاريخ ورواية وأدب إنساني راقٍ، فكم ترك فلم الرسالة للراحل مصطفى العقاد من تأثير لايزال مستمراً متدفقاً إلى الآن. وكيف جسد فلم الشهيد عمر المختار سيرة هذا المناضل العطرة، كما قدمت روايات مثل (ذهب مع الريح)، (مرتفعات وذرنج)، (جين اير) وروايات نجيب محفوظ وقصص إحسان عبدالقدوس، أجمل الأفلام التي مازالت تحتفظ برونقها وكأنها وليدة اليوم، بتأثيرها الإنساني والثقافي.. عدا عن أن لدينا قدرات شبابية فنية متلهفة لإعادة افتتاح دور السينما كي تخرج طاقاتها المدفونة بدل توسل دور العرض الخارجية فقط، ولنقدم للمحيط العربي والعالمي بعضاً من تاريخنا الاجتماعي وألواناً من حياتنا بشكل راقٍ. ولا ننسى ما ينتظرنا من حراك اجتماعي وثقافي واقتصادي بعضه يسهم ويؤثر في بعض والسينما جزء فاعل من هذا الحراك والتجديد والتطوير، بثقافتنا وهويتنا الإسلامية والعربية بلا إفراط ولا تفريط، والله يرعاكم بكريم عنايته.