عبده الأسمري
في سيرته ترابطت جمالية المهمة مع مثالية الدور وارتبطت حرفية العطاء مع احترافية الأداء.. في صوته عمق السكينة وعبق الروحانية.. ومن حنجرته شكل الدور في أطهر مكان وبأسمى عنوان.
إنه شيخ المؤذنين بالحرم المكي الشريف المؤذن الشهير علي أحمد ملا أشهر اللاهجين بصوت «الحق» وأمهر المؤدين للمهنة..
بوجه مكي معتق بالزهد والمجد والود تعلوه علامات المشيب وتفاصيل الطيب ملمحًا ومطمحًا وعينان واسعتان تستكين من وراء نظارة لا تفارقه وبشت زاهٍ يفرضه شرف المهنة وصوت حجازي أصيل ونبرة عميقة مسجوعة بلكنة فريدة وسكنة منفردة وعلن مهيب تتقاطع منه مسارات لحن عجيب وتوليفة صوتية تسمو بالشهادتين وتعلو بالتكبير وتتعالى بالتذكير وتختتم بالتوحيد يصدح ملا في أرجاء المسجد الحرام بالأذان وصوت الحق لينطلق صداه في أم القرى منهجًا ربانيًا ونهجًا دينيًا تطرب له الآذان وتهجع به الأرواح وتستكين وراءه الأنفس وتلهج خلفه الألسن وتمتلئ به الأفئدة جمالاً وامتثالاً.
سيرة مضيئة وميضة بالعلم مشعة بالخبرة حيث درس الشيخ ملا بالمسجد الحرام على يد الشيخ عاشور ثم التحق بمدرسة الرحمانية الابتدائية (المسعى) ومن ثم انتقل إلى الحراج ثم إلى القرارة ثم انتقل بعدها ليكمل دراسته بمدارس الثغر النموذجية بجدة، ثم واصل بمعهد العاصمة النموذجي ونال الدبلوم في التربية الفنية عام 1391 هجري ثم درجة الماجستير بامتياز في ذات التخصص.
نشأ ملا طفلاً نابغًا مسبوغًا بسمو ديني مترفًا بعبق مكة الطاهر وعمق التروحن الذي سكنه باكرًا حيث تربى بين عائلة امتهنت الأذان فكانت أصداءه تتردد في مسامعه وهو صغير يراقب والده وأعمامه وهم يتوجهون إلى مكبرات الحرم فظل يسابق أقرانه متخذًا من أرجاء الحرم «مكانًا قصيًا» للسكنى وركنًا مفضلاً للحسنى فركض في جنباته مكتظًا بإشعاعات النور مدججًا بسلاح الطمأنينة.
كان ملا مستمعًا لقصص المكيين النبلاء معتادًا الوقوف أمام منابر الحرم محاكيًا لتلك الأصداء التي سكنت قلبه وولجت روحه فكونت في نفسه مشهد «المهنة» ورسمت في دربه خارطة «المهمة» فكان يردد الأذان على مسامع والديه وأعمامه فطربوا لتلك النغمة «المكية» الفاخرة التي أطلقتها حنجرته فكان مشروعًا بشريًا مهيًأ باقتدار الهبة ووراثة الموهبة فاعتلى المنبر مؤذنًا وهو ابن الثلاثة عشر ربيعًا واصفًا الخبر «بالأسعد» في حياته حيث ابتدأ الأذان من منارة باب الزيارة في الحرم المكي ثم منارة باب المحكمة حتى أصبح مؤذن لجميع منابر الحرم المكي الشريف.
ملا توليفة بشرية نادرة ظل أكثر من أربعة عقود «مشهدًا مقترنًا» بالأذان المكي الأصيل وشاهدًا متعاهدًا مع المهنة العظيمة التي زادته «أناقة صوتية» و»تأنق لفظي» فظل صوته الشهير مذكرًا ومكبرًا بنغمة فريدة لتوافد الملايين من المصلين والركع السجود الذين امتزجت أرواحهم بالنداء الفريد الذي شكل مقطوعة صوتية محفوظة محببة بهيجة تتلذذ بها القلوب المتعلقة بالفرائض المعلقة بحب العبادات.
سكن صوت ملا أرواح المصلين واستكانت الأنفس لوصلاته الذهبية المنطلقة من حنجرة تعطرت بذكر الله فأمطرت نداءً علنيًا يسكن الذاكرة ويعتمر العقل ويشحذ الهمة.
أجيال من المؤذنين تدربوا على يديه غرس فيهم «أصول اللحن» و»أصالة المد» و»تأصيل الجهد» فامتلأت سجلات الشرف وميادين الفخر بمؤذنين شباب وبارعين ومبدعين وضعوا الأذان المكي صوتًا فريدًا خاصًا مختصًا ينطلق من بيت الله الحرام ليلامس وجدان السامعين عبر الشاشات عبر القارات.
ارتبط الشيخ ملا بجاذبية خاصة لدى الجميع فصوته لا يزال وجهًا للذكرى السنوية لتكبيرات العيد المميزة وظل سنينًا يؤذن لجميع الصلوات في الحج وسيظل «الوجه الصوتي الأكثر ارتباطًا بذائقة المستمعين وذوق السامعين لرونق الأذان المكي الذي يشكل غيمة ممطرة تهطل إبداعًا وإتقانًا من التكبير والتهليل والشهادة والنداء.
أثر التخصص في هوايات الشيخ ملا حيث يهوى جمع الطوابع الأثرية والعملات المتنوعة والفضة والمجلات والكتب وقصاصات الأوراق وهواية الرسم والتصوير الفوتوغرافي والفيديو.
ولأنه الأذان نداء الرحمن.. وصوت الحق.. وصدى التعبد.. وروح الاستعداد تبقى إمضاءات ملا وميضًا بين اتجاهين من تكريم الدنيا وكرم الآخرة.. وتوقيعًا ثابتًا في ذاكرة «الحرم المكي» وذكرى «الفخر».