عند الحديث عن الطرق في العُرْضِيّات والمواصلات الحديثة في أوائل عهدها تعود بنا الذاكرة إلى قرابة الـ80 عاماً مضت ، تاريخ ظهور السيارات في العُرْضِيّات وفي مطلع الستينات من القرن الماضي وتحديداً في سنة 1360هـ عندما جاءت أوائل المركبات التي عبرت العُرْضِيّات من شمالها لجنوبها وهي من طراز شاحنة (أبو شنب f ) ثم (الفرت) ذي الصناعة الأمريكية وذات الأحجام المتعددة وأكثر موديل اشتهر منها هو (1966م) وقد تمت مقاطعة سيارات (الفورد) إبان حرب (1967م)، وبدأ يلمع نجم الجمس والشفر لا سيما (الجمس) الذي صار عنواناً لقصائد الشعراء والسائقين، ورمزاً من رموز القوة خاصة في طرق الرحلات البرية.
ومرور تلك المركبات وعبورها من نمرة وسبت شمران ومخشوشة والنبيعة وعمارة يُعَدّ أمراً نادر الحدوث في تلك الحقبة، لأن المسالك والدروب وعرة جداً والوصول من شمال المحافظة لجنوبها يستغرق وقتاً طويلاً، وقد يمضي أسبوعان أو شهر دون أن تُرى سيارة واحدة، وعند قدومها يسبقها صوتها الذي يسمع من مكان بعيد، وهناك عدة أسباب لندرة السيارات أهمها أن طريق العُرْضِيّات كان فرعياً والطريق الرئيس هو الذي يمر بمحاذاة ساحل البحر الأحمر مروراً بالمضيلف فالقنفذة فالبرك إلى جازان ، أما الحديث عن الرواد الأوائل من السائقين فهو يثير في الحنايا الشجون وخصوصاً لدى المعاصرين لتلك البدايات ولدى من بقي من أولئك الرواد ذوي المكانة والواجهة الاجتماعية آنذاك وعددهم كان قليلاً جداً ولكنهم ذوو شعبية كبيرة في مناطقهم ويعرفون بألقابهم التي درجت بين الناس، ولهم نقاطٌ يتوقفون عندها للراحة وغالباً ما كانت المقاهي الشعبية القديمة هي نقاط التقائهم بالركاب وأماكن للاستراحة ونقاط لانطلاقهم، ومن السائقين والرواد الأوائل الذين قاموا بافتتاح طريق العُرْضِيّات في مطلع السبعينيات إبراهيم بن عبدالرحيم المتحمي من ثريبان ورمضان بن أحمد الزهراني ، جاء من بعدهم دخيل الله بن شلوان المنتشري من قبيلة بني المنتشر وعبدالله بن سهلان البحيري من قنونا ببلاد بني بحير وهما من أقدم السائقين في المنطقة، ثم أتى بعدهما عبدالله الرزقي الشهير بـ(إمرزقي) وهو من قرية الحفنة ببني رزق النبيعة ،هو أيضاً أحد الرواد السائقين القدامى وذوي المكانة في مجاله هذا ، ثم جاء من بعدهم حسن الشهابي من بني شهاب من دوقه صاحب كتاب (الساحل في الزمن الراحل) وهو سائق لوري قديم حيث اقتنى مركبة هي شاحنة (المور) المعروفة بالمرسيدس اليوم ، وقد قام فيما بعد بتحويل مركبته إلى (وايت) ، ولا يزال بعضهم أحياء ، وطبيعة عمل أولائك السائقين نقل الركاب والبضائع من وإلى العُرْضِيّات.
وكان أولئك الرواد الأوائل من قادة المركبات الكبيرة على قدر عالٍ من الأهمية في بلداتهم وذوي حضوة اجتماعية ويتمتعون باحترام شرائح المجتمع في هذه المهنة الجديدة الغريبة في وقتها حيث يخصص لهم ركن مميز في الاستراحات والمقاهي الشعبية دون غيرهم ، بعد ذلك عُرفت مهنة (المعاون) وهو الشخص الذي يرافق السائق ويعاونه على مصاعب الطريق ومُدلهمّات السفر؛ بشرط أن يملك الخبرة الكافية في (الميكانيكا) وإصلاح الأعطال أياً كانت ، وأولئك أشبه بالكابتن ومساعده اليوم ولا يمكن الاستغناء أو السفر دون المعاون.
أتى بعد الفورد طرازات أخرى من المركبات التي توالت في حقبة السبعينات والثمانينات وهي (المور) بأنواعها ومنها (الأبلكاش) ثم في التسعينات جاء الجيب التويوتا المعروف اليوم ذي الصناعة اليابانية، وتلك الجيوب موديل الستينات الميلادية .
وعند التواصل مع أحد الرواد الأوائل من مالكي وسائقي السيارات القدامى تواصلنا مع الشيخ سعيد بن منصور الهمّام السهيمي من أهالي العرضية الشمالية وقد أفادنا بمعلومات من أهمها إن أول من أدخل السيارات للعرضيات ليس من الشمالية ولا من الجنوبية لكنهم (الغُمَّد) أهل بلجرشي ومن أشهرهم شخص يدعى عبد الله بن سرّاح الغامدي ، فقد كانوا يأتون بمركباتهم ويتم إيقافها في العُرْضِيّات ويواصلون رحلتهم صعوداً إلى بلجرشي والباحة على الركائب من جمال وحمير، فيتركون سيارتهم في السهل في موقف معروف بوسط نمرة القديمة ثم يعودون لها بعد ذلك فينطلقون بها إلى مدينة جده أو إلى مدينة صنعاء باليمن كان ذلك في عام 1360هـ تقريباً.
وحين تحدث الشيخ سعيد الهمّام عن نفسه قال اشتريت أول مركبة من المدعو عبد الله بن سرّاح في عام 1365هـ ولزمته مدة من الزمن كي يُعَلِّمُني القيادة ثم بعد ذلك أنطلقت لحمل البضائع والركاب والحجاج اليمنيين من وإلى مدينة صنعاء اليمانية واشتريت فيما بعد عدداً من السيارات واستأجرت لها سائقين يقودونها وسافرت ورفاقي من (آل بن سند) وغيرهم من بلجرشي في منطقة الباحة إلى سوريا حيث كنّا نقوم بفصل الصناديق في منطقة يقال لها (يبرود) في سوريا ، ثم نعود بها إلى المنطقة وتأخذ تلك الرحلة منّا عدة أشهر ، بعد ذلك كثرت المركبات (والوايتات) التي تحمل الوقود وخاصة (القاز) ثم انتعشت الحركة التجارية في العُرْضِيّات ، وبقي الوضع هكذا حتى تملّك اهل المحطات شاحنات الوقود (التريلات) والتي تحمل ما يحتاجون إليه من بضائع فازدهرت حركة النقل، وانتشرت السيارات؛ أما أهالي بلجرشي والباحة فقد شُقت الطرق إليهم بعد زيارة الملك سعود لبلادهم وبهذا انتهى السبب الذي كانوا يوقفون مركباتهم في نمرة من أجله .
وكان الرواد السائقون الأوائل من قبيلة غامد لهم وضعهم الخاص لدى أهالي العُرْضِيّات من الحفاوة والتكريم فهم يحسنون ضيافتهم واستقبالهم ويجلسونهم في أماكن مرموقة تليق بهم وكذلك في المناسبات وحفلات الزواج (والعرضة) تقديرا لدورهم في المنطقة ، وللفائدة التي تعود على بلادهم من تواجدهم بمركباتهم لسفر الأفراد ونقل البضائع.
إذاً حديث الشيخ سعيد الهمّام مفاده أن أول من أدخل المركبات إلى العُرْضِيّات هم الرواد والسائقين الأوائل من قبيلة غامد من أهل السراة على وجه الخصوص ، والسبب في ذلك عدم تمكنهم من الصعود بها إلى الأعلى تجاه بلادهم.
بعد ذلك قمنا بالتواصل مع رائد آخر هو أيضاً من أوائل السائقين إنه الشيخ حسن بن محمد الشهابي من أهل دوقة وصاحب كتاب (الساحل في الزمن الراحل) الذي تحدث فيه عن معاناة مرتادي خط الساحل خلال الفترة التي عاصرها وقد عاش تلك التجربة والمصاعب التي تكبدها هو ورفاقه حينها وتحدث أيضاً عن البلدات التي كان يمر بها الطريق الساحلي القادم من جدة ومكة المكرمة مروراً بالليث فالمضيلف والقنفذة حتى يصل إلى جازان.
وحسن الشهابي، أحد الرواد وقدامى السائقين ذوي المكانة الاجتماعية المميزة كقائد مركبة على الطرق السريعة، وهو في العقد السابع من العمر، أمضى جل حياته راصداً لحياة الناس وعاداتهم باختلاطه اليومي بهم، ووجد نفسه مهيأ بعد كل تلك السنين، ليسجل حكايته في كتاب متواضع من الناحية الفنية ، وقيّم بالمعلومات التي تفتقدها المكتبة السعودية.
وعلى طريقة الأوائل في تسمية كتبهم، واختيار مسمياتها التي تعتمد (السجع) و(الطباق)، جاء كتاب الشهابي (الساحل في الزمن الراحل) ليحكي بداية دخول الخدمات لسكان الشريط الساحلي الممتد من مكة مروراً بديرته دوقة حتى جازان.
ويحكي المؤلف الشهابي، عن أول سيارة وصلت إلى بلدته (دوقة) والتي تقع هي أيضاً على الساحل، كان ذلك في منتصف الأربعينيات الميلادية، ولم يكن السكان المحليون وقتها يعرفون هذا الكائن الغريب، يقول إن أول سيارة وصلت دوقة شممنا رائحتها قبل أن نراها، ثم سمعنا صوتاً غريبًا، قال من يعرفون السيارات بين مكة وجدة، إن هذا صوت سيارة، وكانت سوداء اللون.
وقد تواصلنا مع الشيخ حسن بن محمد الشهابي هاتفياً في تاريخ يوم الثلاثاء الموافق 20 محرم 1439هـ، وإن كنّا نعتب عليه إذ أنه يمتلك معلومات كثيرة عن العُرْضِيّات في تلك الفترة وما قبلها عن الحياة الاجتماعية والثقافية ووسائل النقل الحديثة والرواد الأوائل من السائقين والذي كان هو أحدهم ولديه زملاء في تلك المهنة جُلهم من العُرْضِيّات ،وقد زارها غير مرة إما ماراً بها في تنقلاته أو زائراً لأصدقائه هناك ولم يورد شيئاً من تلك المعلومات في كتابه عن العُرْضِيّات ، وعند الحديث معه وجدناه إنساناً متعلماً ذي ثقافة عالية يحسن التحدث مع أي أحد دون تكلف، لديه غزارة في المعلومات عن التاريخ الاجتماعي للمنطقة بشكل عام والقنفذة ودوقة والعُرْضِيّات بشكل خاص وحبذا لو استطاع أحد المهتمين والباحثين أن يستكتبه عن التاريخ الاجتماعي ويفيد القراء بثقافته تلك وفي الجزء الثاني إن شاء الله سنكمل ما قاله لنا الشيخ حسن الشهابي وتحدث عن تجربته بنفسه.
** **
- عبد الهادي بن مجنّي
bnmgni@hotmail.com