العقل العربي عقل نظيف، ويستطيع السير على الشوك، وفي درجة الغليان، دون أن يتأثر، ولكن الرتوش التي أصابته جعلت العوالق تغطي على صفائه، شوشت قدراته فحرفته عن الطريق السليم، وجعلته يتحدث إلى الأشباح وهو مأسور إلى الماضي دون أن يدرك أنها انحرافات عن المسار الذي يجب أن يسير فيه. العقل العربي هو ابن بيئته، ولا يستطيع أن يستقي أفكاره من بيئة أخرى؛ ولهذا انحرف عن الصحراء التي يسكنها وتسكنه، وتوجه نحو خطابين، خطاب يوجهه نحو جنات عدن والحور العين، وخطاب آخر يوجهه نحو جنات يراها على وجه الأرض، كل خطاب من هذين الخطابين يسحبه باتجاهه، لم يستطع العيش في المنتصف. إذ إن خطاب جنات عدن يجر معه الماضي، ويجعله هو الأساس في الحياة، لم يأخذ من الماضي ليصلح به الحاضر بل بقي معلقاً في الماضي دون أن يحرك ساكن الحاضر. هذا الاجترار أثر على مستوى الأخلاق فانهزمت أمام الحاضر، وانتكس العقل وأصيب بانحراف وهو يتجه نحو جنات أوروبا وخطاب الحرية الذي تنعم به متصوراً تساؤلاته التي يطلقها عن حياته الصحراوية أنها وجدت الإجابة لدى الغرب، بينما هو مخدوع مشوه، وأصبح كالغراب، لا هو استطاع أن يسير كالحمامة، وفقد مشيته الأساسية؛ فهذا الخطاب ـ الثاني ـ يسحبه أيضاً باتجاهه كي يجعله يعيش في بوتقته، ولا يريده أن يعيش في بوتقة التساؤلات المثيرة التي تقوّم حياته، وتجعلها صافية متجهة نحو الصواب.
كلا الخطابين يصور الحياة على أنها جنة، وهما يوجهان العقل العربي نحو الخضوع لا نحو خلق العالم الذي خُلق من أجله، أو أُوجد من أجله، والمساحة بينهما مجرد كلمات تقال، هذه الكلمات التي يستطيع العقل أن ينتج أفضل منها متى ما تحرر من كلا الخطابين.
الانحراف الحقيقي لدى العقل العربي يبدأ من صناعة المقدس أو من تقديس الأشخاص، بحيث أنه يتجاوز في صناعتهم إلى الخنوع عبر كلمات توحي بأنهم ليسوا بشراً مثله.
ألم تسأل نفسك في العمل وأنت تقدم لرئيسك أسباب الخنوع له، وأنت تصنع منه ما يكبت عقلك ومواهبك؟ ألا تعد هنا منحرفاً؟ ألا تعتبر نفسك تافهاً إذا ما حدثتها وسألتها عما تفعله؟ ألم يخطر ببالك أنك تحجب كل حقوقك تحت ظل هذا الرئيس، الذي سيتبدل يوم غد ويأتي غيره لتصنع معه مثل ما فعلت مع السابق؟ إنك من طبقتك الدنيا تصنع هذا، وتشتكي أن حقوقك مسلوبة، حقوقك سُلِبت من خنوع كهذا، مما تفعله أنت، من انحرافك غير المبرر.
إن أهم لحظة في حياتك هي أن تكون إنساناً، والإنسان يتصف عن بقية مخلوقات الخالق بالعقل، فلماذا تتخلى عن عقلك لتجعل غيرك يسيّره كيفما يريد، وبالطريقة التي تناسب حياته لا حياتك؟ انتزع هذا القيد من داخلك، واخرج إلى الحياة الحقيقية، فالدرب أمامك مليءٌ بالسعادة، ولن تكون السعادة إطلاقاً في الخنوع لعبد مثلك، يأكل ويشرب ويمرض ويموت.
غداً أو بعد غد يمارس الناس سوءاتك التي ينهونك عنها!!
- برناردشو
** **
- محمد الغامدي