الجزيرة - عوض مانع القحطاني:
أكد خبير في شؤون تسوية المنازعات أن آلية «التحكيم» أصبحت محط الاهتمام، وأولوية حيوية لكل دولة تتطلع إلى تعزيز الثقة في «البيئة العدلية» لديها، خاصة من قبل المستثمرين، استنادا إلى أن المنظور الأحدث للعلاقات الدولية بتشابكها وتعقيداتها لا يستطيع أن يتصور العالم بمعزل عن الأسلوب الذي بات شائعاً ضمن أدوات التعايش، وهو الآلية المعروفة بـ» التحكيم» لتسوية الخلافات وفض المنازعات.
وقال المهندس نادر الشمري نائب رئيس مجلس هندسة كفاءة الطاقة وعضو المحكمة الدولية لتسوية المنازعات بلندن: شاهدنا ذلك واقعاً لدينا بعدما واكب المؤتمر الهندسي العالمي الاول الذي أقامته الهيئة السعودية للمهندسين بداية شهر ديسمبر -عبر بيانه الختامي- تلك الأولوية حينما أوصى «بوضع إطار عام وشامل احترافي متخصص للنظر وحل نزاعات عقود المشاريع الهندسية في القطاعين العام والخاص».
وأشار المهندس الشمري إلى أن «التحكيم» ليس طارئاً أو جديداً في إدارة العلاقات الإنسانية، فهو قد سبق «القضاء» ، وعرفته المجتمعات البشرية قبل ظهور التقاضي بصوره المعروفة، ولكنه برز بوصفه الخيار الأنسب الملائم لتداخل العلاقات وتطور أنماط التجارة والشراكات وامتدادها بين الدول، مبينا في ذات الوقت أن «التحكيم» ليس طعناً في أنظمة القضاء ولا انتقاصاً من سلُطات الدول، ولا تدخلاً في الشأن السيادي لها، ولكنه منظومة تكاملت مع مرور الزمن وارتضته الحكومات، فضلاً عن أنه وسيلة حازت كثيراً من المرونة بالمقارنة مع بطء مراحل التقاضي وكثرة القضايا، وهذه العمليات توصف أحياناً في كثير من الدول بـ «سلحفائية إجراءات التقاضي» .
وأردف الشمري: ولما كان الاستثمار مجالاً رحباً للتنافس، والقدرة على جذب الاستثمارات من أهم مؤشرات الحيوية في الاقتصادات، فإن مكانة «التحكيم» وقوته، عنصران مهمان في فاعلية اجتذاب الاستثمارات، فاستقرار «البيئة التحكيمية» يطمئن المستثمر على مستقبل أعماله وأمواله، وأن أي خلاف محتمل سيحسم وفق بنود تحكيمية عالمية. لافتا إلى أن المتابع للعلاقات الدولية يلمس بوضوح أن الاهتمام بالتحكيم قد تصاعد مع بروز ظاهرة العولمة، وهرولة الدول للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، النادي العالمي الذي وضع التحكيم في صدارة تنظيم العلاقات التجارية.
وأضاف الخبير المختص بأن البلدان العربية لم تشأ أن تكون بمنأى عن هذا التطور فسارعت في ثمانينيات القرن الماضي بتأسيس عدد من مراكز التحكيم المحلية لضبط إيقاعها مع الحراك العالمي، وكذلك أوجدت مراكز إقليمية، مثل مركز القاهرة الاقليمي للتحكيم التجاري الدولي، ومركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي «دار القرار» الذي تأسس في التسعينيات، اما السعودية فالمركز السعودي للتحكيم التجاري الذي تأسس عام 2014 م ومركز التحكيم الهندسي التابع للهيئة السعودية للمهندسين، من الشواهد على أن المملكة، بوصفها قوة اقتصادية وعضوا في «مجموعة العشرين»، حريصة على إيجاد «الأدوات» التي تجعلها تواكب ركاب التطور الذي فرض واقعاً جديداً في إدارة العلاقات التجارية.
وأبان المهندس الشمري أنه على الرغم من هذا الاهتمام العربي فإن آلية التحكيم لديها لم تتخذ المكانة التي تجعلها تقف على قدم المساواة مع غيرها من مراكز التحكيم في الخارج. ويرى بعض المتابعين لهذا الشأن أن مرد «القصور» في أن يكتسب التحكيم العربي القوة، الى افتقاره للطاقات البشرية النوعية التي يتطلبها التحكيم، لتحوز قرارات الفصل في المنازعات على الاطمئنان والثقة، مؤكدا أن بعض المصادر وثيقة الصلة بمجال التحكيم تشير إلى أن واقع مراكز التحكيم في المنطقة يعكسه توجه الدول العربية نفسها الى مراكز دولية للفصل في قضاياها الخلافية، حيث قدرت تلك المصادر حجم الخسائر السنوية في المنطقة العربية بسبب الانصراف عن مراكزها إلى التحكيم الدولي بأكثر من 20 مليار دولار تم إنفاقها على هيئة تعويضات في 700 قضية.
وأضاف: في ضوء هذا الواقع، وما يشيء به مستقبل التحكيم في المنطقة فإننا بحاجة إلى وقفة تمعنية في حال التحكيم لدينا، وتركيز الاهتمام على المراكز الوطنية، وتفعيلها، بالتوازي مع «رؤية المملكة 2030» التي تفتح آفاقاً رحبة في الفضاء الاستثماري، وبدأت تباشيرها في مشاريع عملاقة تغير نمط الاقتصاد الوطني من اقتصاد أحادي المورد معتمد على النفط، الى اقتصاد يوظف المعرفة وينتجها، فمشروع ضخم و واعد مثل «نيوم « والمشاريع المستقبلية الأخرى المنبثقة من الرؤية الطموحة للمملكة، ويُستقطب لها الشراكات العالمية المرموقة، لا شك تحتاج إلى طمأنة الشركاء بوجود التحكيم النزيه الذي يحفظ حقوقهم.
واختتم المهندس الشمري قائلا: إن المركز السعودي للتحكيم التجاري، وغيره من المنابر، يجب أن تعزز رسالتها التي تتمحور حول «خلق بيئة نظامية آمنة وجاذبة للاستثمار الأجنبي والمحلي في المملكة، بإزالة العقبات والصعوبات فيما يتعلق بتسوية المنازعات التجارية بين الأطراف، ونرى أن «المركز السعودي»، بنشاطاته وفعالياته العديدة محلياً ودولياً، يبث في أدائه روح «رؤية 2030» بكل ما تحث عليه «الرؤية» من ضرورات الإعداد الفكري والمهني.