د.عبدالله مناع
انتهى معرض جدة الدولي الثالث للكتاب في موعده تماماً - في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر الماضي - بينما كان يتطلع الناشرون إلى تمديده يومين آخرين؛ لموافقتهما الأيام الأولى من شهر ربيع الثاني؛ حيث تتحسن قدرات القراء الشرائية مع مطلع كل شهر هجري، لأن الأغلبية تتقاضى مرتباتها الشهرية -حتى الآن- وفقاً (للأجندة) الهجرية باستثناء الشركات والمؤسسات وما في حكمها، وهو تحسن كان يأمل الناشرون من ورائه خيراً في تعديل إجمالي كفة مبيعاتهم في المعرض، التي كانت موضع شكواهم جميعاً هذا العام، لكن هذا التمديد -الذي لا أدري من هو صاحب القرار فيه، إن كانت المحافظة أم الشركة التي تدير المعرض أم إدارة الناشرين العرب في القاهرة- لم يحدث في النهاية، وأغلق المعرض أبواب خيمته وانفض سامر القراء والناشرين، الذين أخذوا من فورهم يلملمون بقية كتبهم لإعادة شحنها إلى حيث أتت، ليبقى (كشف الحساب) عن تلك الأيام العشرة التي كان المعرض يستقبل فيها زواره صباح مساء من العاشرة صباحاً إلى العاشرة مساءً، وعن ايجابياتها وسلبياتها، وعن أجمل وأسوأ ما كان فيها.
ولأنني شاهدت هذا المعرض في صورته الأخيرة بأرض الفعاليات في ابحر الجنوبية، وفي دوراته الثلاث الماضية: قارئاً وناشراً ومشاركاً في فعالياته، فقد وجدتني الأقرب للحديث عن تلك الايجابيات والسلبيات اجمالاً، وعن الأجمل والأسوأ فيما شهدته ايام المعرض في نسخته الثالثة.
لعل أسوأ ما في المعرض إجمالاً ليس في نسخته الثالثة، ولكن في كل نسخه السابقة، هو موقعه النائي عن مدينة جدة بخمسة وثلاثين إلى أربعين كيلاً أو يزيد، في مدينة لا توجد بها مواصلات عامة يعتد بها أو يعتمد عليها، بل ودون أدنى اشارة اعلانية في الشوارع والميادين تشير إلى موقعه، وكأن زائريه جميعاً هم من أهالي وسكان جدة، الذين يعرفون (أبحر الجنوبية) والطريق إليها تمام المعرفة!! أما القادمون إلى المعرض من المدينة المنورة أو الطائف أو الليث أو القنفذة أو جيزان، فإن عليهم أن يضربوا (الرمل)! أو (يوشوشوا) الودع لمعرفة الطريق إلى المعرض! أو تتلقفهم سيارات الاجرة التي تملأ شوارع وميادين جدة صباح مساء، وقد حددت مقابل (مشوارها) إلى المعرض سبعين ريالاً في الذهاب، وأخرى مثلها في الإياب، وهو ما يعني ان القارئ أو المثقف الذي لا يملك سيارة خاصة فإن عليه ان يستعد لدفع تلك الأجرة ومثلها لشراء ما يعجبه من الكتب، فإن لم يستطع فليس امامه الا ان يتنازل عن زيارة المعرض أو عن اقتناء أي من كتبه!! وفي العادة فإنه يحرص على زيارة المعرض للتعرف على الجديد من كتبه، ويرجئ مسألة الاقتناء إلى مناسبة أخرى أو إلى معرض آخر!.
يضاف إلى ذلك أن عربات حمل الكتب - التي تشبه عربات السوبر ماركت - التي كانت تؤجرها بعض الاكشاك داخل المعرض في العامين السابقين لم تكن متوفرة هذا العام بقدر كاف، وهو ما جعل الكثيرين من الزائرين يلغون فكرة شراء الكتب من أساسها في غياب تلك العربات، حتى لا يتكبدوا مشقة وضعها في أكياس بلاستيكية، والسير أو التعثر بها في ايديهم عبر تلك الممرات الطويلة والمسافات الشاقة والشاهقة التي لا نهاية لطولها وصولاً إلى بوابات الخروج من المعرض، وقد عقَّد الأمر في مسألة الكتب وشرائها ونقلها في داخل المعرض وخارجه أو ارسالها إلى المدن الاخرى المجاورة كمكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف أو جيزان أو عنيزة أو غيرها من مدن المملكة غياب مكتب البريد هذا العام، الذي كان يعتمد عليه كثير من الزائرين في شراء ما يحتاجون من كتب لأنفسهم أو لأصدقائهم خارج مدينة جدة، وارسالها إليهم عبر مكتب البريد في المعرض، والذي غاب فجأة هذا العام..!
لقد أثرت هذه العوامل مجتمعة على إجمالي حجم المبيعات لدى الناشرين في هذه الدورة الثالثة، وجعلته الادنى مقارنة بسابقيه: الأول والثاني، وهو أمر شديد الأهمية والحساسية بالنسبة للناشرين، الذين يشكلون عصب معارض الكتاب وبؤرة ارتكازها.
أما بالنسبة للخدمات اللوجستية كالمطاعم والمقاهي، فقد كانت متوفرة من حيث اعدادها، وتنوع ما تقدمه للزائرين، بل وبصورة ترفيهية خاصة على تلك الموائد المطلة على شاطئ البحر، لكن مشكلتها مع الزائرين هي في اسعارها المشتعلة، ما عدا في مطعم واحد شهير ومعروف في جدة، فقد ظل على سعره السابق دون زيادة هللة واحدة، وهو أمر يستوجب في اجماله تدخل المحافظة لضبط تلك الاسعار؛ لان الناشرين وعمالهم وموظفيهم يقيمون اقامة دائمة طوال أيام وساعات المعرض، فهم يذهبون إلى المعرض عند العاشرة صباحاً، ولا يعودون منه إلا قرب الثانية عشرة ليلاً، وهم طوال تلك الساعات يأكلون ويشربون من تلك المطاعم والمقاهي، موفرين بذلك ما هو أكبر من حدود الربحية الضروري لحسن أداء خدماتهم.
أما دورات المياه وقد وضعت في موقع واحد، فإنها بحاجة إلى مواصلات لبلوغها!! وهو ما يستدعي اعادة النظر في امرها وتقسيمها إلى قسمين قسم في كل جهة من جهتي المعرض؛ رحمة بالمرضى ورأفة بكبار السن.
لكن أجمل ما في هذا المعرض في نسخته الثالثة فقد كان في استضافة الاتحاد الاوروبي، وحضوره اللافت بتلك الفعالية الفريدة والمميزة التي قدمها وسط بهجة الاطفال وفرحتهم، وأعني بها فيلم: (شتاء أوفلين وآتلي) للأطفال، المأخوذ عن احدى روايات الكاتبة الفنلندية (مارجريتا كوريمي)، وهو ما يفتح الباب في تقديري لتقديم افلام أخرى لعل في مقدمتها: الافلام الحائزة على (الاوسكار) في كل دورة من دورات المعرض القادمة، وربما يفتح الباب - أيضاً - لتقديم فنوننا الشعبية الغنائية المتمثلة في (الصهبا) و(المجرور) الطائفي، فهما وان كانتا غنائيتين الا انهما تمثلان جانباً من ثقافة المنطقة الغربية دون شك.
يضاف إلى اجمل ما في هذا المعرض تلك الكوكبة العريضة من شباب المتطوعين في العلاقات العامة للترحيب بزائري المعرض وتقديم الاجابات عن استفساراتهم، ومداعبة اطفالهم، بل وحمل أكياس الكتب عنهم وايصالها إلى سياراتهم، فكانوا الصورة المثالية الجميلة لشباب نحلم به ونرجو عطاءه.