محمد المهنا أبا الخيل
قضيت الفترة الممتدة من العام 1975 وحتى العام 1982 في الدراسة خارج المملكة والتي تخللها بعض الانقطاع لظروف خاصة. خلال تلك الفترة التي يشار لها بفترة (الطفرة) تغيرت حياة كثير من الناس وبدرجات مختلفة، فمنهم من تنامت ثروته بسرعة ومنهم من تواضعت ثروته بفعل قوى الاقتصاد القسرية, وخلال تلك الفترة ارتحلت عائلتي من منزلنا في وسط مدينة (بريدة) إلى منزل أكبر في حي (الصفراء) بنفس المدينة، وعندما عدت من الدراسة واستقر بي المقام ببريدة، طلب مستأجر منزلنا القديم بعض الإصلاحات فذهبت للمعاينة ودخلت لأول مرة المنزل الذي تركته قبل (7) أعوام، وكانت دهشتي صادمة حيث وقفت فيما كانت غرفتي أيام كنت طالباً بالثانوية وتذكرت كيف كنت وبعض زملائي نذاكر ونمزح فيها ونقضي الساعات وهي بهذا الصغر فقد كانت لا تتعدى مساحتها (6) أمتار مربعة، كانت مساحة كل منزلنا هي (160) متراً مربعاً، وهو في الدور الثاني لعمارة دورها الأرضي معرض تجارة والدي لبيع الأجهزة الكهربائية. وكانت معظم مساكن (بريدة ) في ذلك الحين لا تتعدى تلك المساحة، ثم أتت الطفرة فأصبح أقل البيوت مساحة لا يقل عن (600) متر مربع، وزاد استهلاك الناس من الماء والكهرباء وأصبحت حياتهم أكثر تطلباً وأكثر تنوعاً وأكثر تكلفة.
ارتفاع أسعار البترول في منتصف السبعينيات من القرن الماضي أتخم خزينة الدولة بالأموال فكانت الطفرة في البناء حيث ساهمت قروض صندوق التنمية العقارية حينها في بناء أحياء جديدة للمدن ووسعت شوارع ونزعت ملكيات ميادين ومهدت طرق جديدة وبنيت موانئ ومطارات ومصانع، ولذلك جلبت العمالة من كل حدب وصوب، كانت الأموال التي تصرفها الدولة تتدفق لجيوب المواطنين في نهاية مطافها فتحسنت معيشتهم وأصبح فقير الأمس بغنى لم يعهده في حياته، ثم أتت التحديات تتوالى فكانت حرب العراق مع إيران حيث كانت الثورة الإيرانية في عنفوانها وجماحها لغزو بلاد العرب، فما كان لنا سوى أن ندعم العراق في وجهها وكان ذلك على حساب ثروتنا الوطنية، ثم هبطت أسعار النفط في منتصف الثمانينيات لسعر البرميل في أدنى مستوى (7) دولارات، ولم تتعاف الأسعار إلا بعد أن دخلت المملكة بمعضلة تمثلت في (غزو الكويت ) وتحمل عبء تحريره، وفي تلك الفترة بلغت ديون الدولة أرقاماً مقلقة حيث كان الدين العام يمثل (80 %) من إجمالي الناتج المحلي، ومع ذلك لم تتخل الدولة عن التزاماتها للمواطن، تباطأت وتيرة التنمية وأحياناً كثيرة أجلت بعض المشاريع الحيوية، ولكن الدولة عادت بعد أن تحسنت أسعار النفط لنفس النمط الذي كانت عليه في عهد الطفرة، مزيد من الإنفاق ووفرة في المشاريع والتمويل والقروض، وهكذا أصبح المواطن ينتظر عطاءات الدولة وكأنها غيث المطر تهطل في مواسمها.
منذ منتصف السبعينيات وحتى اليوم اعتاد الناس في المملكة على وتيرة رخاء الحياة وسخاء الدولة، وحين واجهت الدولة قلة في الإيرادات.لم يشتك المواطن من انحسار العطاء، ولكن معظم المواطنين لم يكن يتوقع أن يرفد الدولة بما يتيسر له وخصوصاً الأثرياء منهم عند حاجتها، وكانت الدولة ترى أن التحديات التي تواجهها هي تحديات ظرفية ووقتية تزول مع تحسن أسعار النفط، وهذا ما كان يحدث دائماً، ولكننا مقبلون على تحديات جديدة ومن نوع أخر، تحديات تواجه النفط ذاته في كونه مصدر الطاقة الأفضل ,تحديات ربما تهزم بطولة النفط كأفضل مصادر الطاقة، ومعظم واردات الدولة هي من واردات بيع النفط، لذا علينا اليوم أن نتغير وندرك أن وتيرة حياة الرخاء وسخاء الدولة لم تعد ممكنة في المستقبل.
استطاعت المملكة العربية السعودية بما تيسر لها من واردات نفطية على مدى عقود أن تبني دولة لها اقتصاد راسخ وتؤهل شعبها ليصبح من أفضل الشعوب العربية في الحياة والتعليم والإنجاز وباتت ضمن أكبر (20) اقتصاداً على مستوى العالم، وكان من شأن ذلك أن يجعل الاستمرار و التطور الاقتصادي يستلزم مزيداً من الإنفاق ومزيداً من المشاريع ومزيد من الجامعات ومؤسسات التنمية البشرية، وهذا المزيد من الإنفاق لن يعتمد على واردات النفط فقط منذ الآن، بل سيعتمد بصورة متنامية على عوائد استثمار الدولة في شعبها وتعليمه وتنميته ليكون شعباً منتجاً ورافداً مهم للدولة، والدولة ستعتمد على عوائد استثماراتها في مرافقها ومؤسساتها وشركاتها، في صورة تنويع لمصادر دخل الدولة.
المواطن السعودي اليوم مطالب بمراجعة ذاتية لأسلوب حياته والنظر فيما يجب عليه تجاه الدولة وتجاه نفسه وتجاه أسرته، فمن باتت نفقاته لا تتوازن مع دخله فيجب عليه أن ينظر في كيف يستطيع أن ينمي الدخل أو كيف يوفر النفقات أو كلاهما معاً، والفرصة متاحة للجميع، ومن يعتقد أن ذلك غير ممكن لسبب أو أخر فقد حكم على نفسه حكم لا يليق بمن كان أجداده رواد في البحث عن الحياة الكريمة في عمق الصحراء الجرداء.