د. فوزية البكر
في محاضرة ملهمة، قدمتها لنا الرائعة د. مها السنان أستاذة تاريخ فنون الجزيرة العربية القديمة والفن السعودي الحديث، وأستاذ تاريخ الفن المشارك في جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، التي قضت عام 2014 مرحلة ما بعد الدكتوراه أستاذًا زائرًا في جامعة هارفارد، وذلك في خيمة جمعية الثقافة والفنون، حاولت المقارنة بين فترات تاريخية ومحطات فنية في الغرب بمحطات فنية وتاريخية في الجزيرة العربية؛ وذلك من أجل إدراك أوجه التشابه المثير للدهشة بين ما كان ينتج من فنون في مرحلة تاريخية ما: مثلاً بداية القرن العشرين أو الخمسينيات في الغرب من مدارس فنية، وما ينتج لاحقًا في الجزيرة العربية من أعمال فنية، وكيف تأثر فنانونا المحليون بالموجات الفنية المختلفة، مثل التجريدية والتكعيبية والبوب آرت؛ ما أفقد أحيانًا الفنانين من الجزيرة ذائقتهم الأصيلة التي كان يمكن أن تنتج فنونًا (أصيلة) بأفكار جديدة، يفرضها الواقع المحلي المعاش للفنان؛ فيتمكن من إنتاج ورسم وتصنيع فنون تعبِّر عن مرحلته، وليس ما هو سائد في المدارس الفنية الغربية.
المقارنة تاريخيًّا، ومن خلال أعمال فنية محددة في الغرب، مع فناني الجزيرة العربية، وتحديدًا في المملكة، كانت مثيرة جدًّا؛ إذ قد يتخيل الإنسان أن الفنان حتى يصبح فنانًا أصيلاً لا بد أن يدرس المدارس الفنية، ويتعرف على ما في الغرب، أو لنقل ما في تخصصه من أفكار ومدارس، ومن ثم ينطلق ليعبِّر عن نفسه، لكن المشكلة بالنسبة لفنانينا كانت ضيق المجال الفني المتاح محليًّا، وسوء تقدير الفنون على المستوى الرسمي والتعليمي؛ الأمر الذي لم يساعد الفنانين المحليين على تشكيل شخصياتهم الفنية الناضجة بشكل مستقل، كما لم يتمكن المتلقون - وهم نحن الجماهير العادية - من فهم هذه الفنون وتقديرها وإعطائها مكانتها بما يسمح للفنان بأن يعيش ويقدر ماديًّا واجتماعيًّا؛ ليتمكن من الاستمرار.
ضَعف الدعم الرسمي للفنون بشكل عام بسبب تيارات الصحوة التي سيطرت على مؤسساتنا الرسمية منذ بداية الثمانينيات؛ فسطحت كل ما له علاقة بالفنون من رسم وتشكيل وموسيقى ومتاحف وجمعيات، وأضعفت الدعم الرسمي له حتى كادت تتلاشى إلا من شذرات فردية مدعومة من قِبل مؤسسات بسيطة وشخصيات فردية آمنت بالفن وأهميته في بناء الشخصية الإنسانية؛ فبقي من كان قادرًا على السباحة ضد التيار العام المحافظ والمضاد لكل أشكال الفنون - وهم قلة - في حين توارى آخرون، أو عمدوا إلى تقليد مدارس فنية غربية معينة؛ ففقدوا هوياتهم الذاتية وقدرتهم على إنتاج الفن الأصيل.
هنا نثير أسئلة كبيرة عن حاجة الإنسان بشكل عام للفنون في حياته حتى يتمكن من التوازن؛ فالكلمة الطيبة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، مثلها مثل الرسمة المبدعة أو المنحوتة المميزة أو أية تشكيلات فنية متنوعة. وحين تغيب يبدأ التوتر والعنف في تسلق حدائق النفس الجافة؛ ليجد أرضًا خصبة، يملؤها عنفًا وتطرفًا.
لم يكن غياب الفنون قاصرًا على الساحة العامة بل غابت الفنون أيضًا عن مدارسنا التي هُمّشت فيها مواد التربية الفنية بحجة أنها عبث لا طائل منه، وأنها من نزغ الشيطان، وتلاشت تدريجيّا في سيطرة تيارات الصحوة على مفاصل وزارة التربية والتعليم آنذاك اهتمامها بنشر الثقافة الفنية أو المعرفة العلمية حول تاريخ الفنون وأثرها في حياة الشعوب، والإرث العالمي المصاحب لذلك؛ فعهد بتدريس مواد التربية الفنية لغير المتخصصين، وقُلصت أقسام التربية الفنية في الجامعات، ودخل تطوير مناهج التربية الفنية كهفًا تاريخيًّا طويلاً، استغرق أكثر من عشر سنوات بين دهاليز الوزارة ولجانها لإقرار المنهج الحديث للتربية الفنية وطباعته وتدريب المعلمين عليه وتوفير خاماته، حتى وصلنا للوقت الحاضر، فاستعادت مادة التربية الفنية بعض عنفوانها في المدارس، لكن مع تقلص الموارد المالية. بشكل عام كان التأثير كبيرًا في توفير الخامات المطلوبة للأعمال الفنية، وأصبحت جودة تدريس الفنون مرتبطة بشخص المعلم أو المعلمة، وقدرتهما المالية، وبدعم قادة المدارس إذا ما صادف أن كانوا داعمين للفنون أو محبين لها.
لماذا يجب أن ندرس الفنون؟ أثبتت الأبحاث العلمية أن تعرض الأطفال منذ صغرهم للفنون البصرية وللدراما والموسيقى يحفز عمليات نمو الدماغ، كما يحسن استيعاب المواد الأخرى، مثل اللغة والرياضيات، وهو أيضًا يمكن الطفل من إطلاق شحناته السالبة عبر الممارسة والنشاط اليدوي الذي يعلّم الصبر وأهمية التعاون وضبط المشاعر وابتكار طرق جديدة ومبتكرة لحل المشكلات، فضلاً عن حق المتعة وتعلم كيفية الاستمتاع بالشيء، وكيفية فهم اللوحة أو القطعة الموسيقية، وتقدير التراث الإنساني المشترك في ذلك.
ما حدث في زمننا كان جريمة: كان يجب أن ندرس الفنون كما قدمتها لنا د. مها السنان.
ما الذي حدث لجيلنا حتى تمكنت الصحوة من التدخل والتحكم حتى في أدق تفاصيله التعليمية والحياتية؟