د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
اتفاقًا أو تصادفًا مع الأوضاع الاقتصادية يتأثر الجوُّ الثقافي فيتهافت الناس على الرخيص والسائد والممكن، وحين يتثاءب الكاتب تتثاءب الدوائر التابعة له أو المتابعة لإنتاجه دون أن تتوجس من رمزها تراجعًا أو تسعى في نفسها إلى مراجعة، ظانةً - وبعض الظن إثم - أن ما يُتناول أو يُتداول هو الأصحُّ والأفصحُ أو الأجلُّ والأجمل.
** لم يعد يُضنينا البحثُ عن الكاتب أو الكتاب كما أضنى من قبلنا، وفي الذاكرة لأجيالٍ تنحسرُ دأَبٌ في السعي وأدبٌ بالوعي، والعثور عندهم على تميز شخصيٍّ أو نصيٍّ فتحٌ معرفي لا يقتصر على الفرد الذي وجد ضالته في مكتبة قصية أو سفرٍ غير قاصدٍ بل سيمتد عبر مساراته الخاصة والعامة فينقل ما اكتشفه أو استفاده لذويه ومحبيه ومجالسيه وطلابه، وفي صغرنا كنا نتبادل الكتب التي نراها جديرة ونتواصى بها، وربما بدونا مستنسخين في مستهل تنشئتنا دون أن نفقد طريق الخروج أو منافذ الاستقلال.
** وبمقارنة استنساخ الأمس وتنمطه باستمساخ اليوم وقطيعيته فإن في مدارات شِيبنا وشبابنا الآن ما لا يستحق التفاتًا، ونعجب حين نرى الأعمدة متكئةً على الأفكار نفسها وكأنها درسُ تعبيرٍ إجباري يُسعى منه إلى اكتساب درجة الحد الأدنى من غير أن نجد تنوعًا في الأساليب وثراءً في اللغة واستقصاءً في البحث وانعتاقًا من الصناديق المغلقة.
** سنتساءل ولا مجيب عن السياق الثقافي والإحالات المعرفية والجمل اللغوية والإضاءة المبدئية والإضافة الذهنية التي يُشيعها كاتبٌ في مقالاته ومؤلفاته كي نُقنعَ أنفسنا بأهمية طرحه؛ أكان نصًا قصيرًا أم مجلدًا ضخمًا؛ فهذه المعايير حواجز معنوية ترسم الفوارق بين الإشراق والإغراق.
** لا نشكو ندرةً في الكتبة بل فائضًا فيهم، وبخاصةٍ بعدما صارت الوسائط الرقمية ملأى بالهارفين، ولكننا نلمس تضاؤلًا يبلغ درجة الانطفاء في العارفين، وقديمًا قال أبو الطيب: «لولا المشقةُ ساد الناس كلُّهمُ «، ولن يسودوا ولو ادَّعوا، وليت للجودِ منطقًا وللكتابةِ نطاقًا ومنتطقين.
** يرحل رموزٌ ذوو قاماتٍ وقدراتٍ ويكتشفُ ذووهم ومريدوهم وجود آثار مخطوطةٍ خلَّفوها وراءهم دون أن يسعفهم الوقت أو يلجئَهم الظرفُ إلى إصدارها أو حتى الوصية بالاحتفاء بها، وفي المقابل نجد من ينشر وينثر غير عابئٍ بالتدقيق والتوثيق، ونعجب في تراثنا ومن بعض معاصرينا ممن تجاوزت تآليفهم المئات فاستأثروا ولم يؤَثِّروا.
** ألَّف بعضهم في المصنِّفين الذين تجاوزت كتبهم مئةً وخمس مئةٍ وألفًا، ولا عجب إن اكتنزت بالغثِّ والرث، وشهدنا من لا يكاد الجيل الناشئُ المهتمُّ بالقراءة يعرفهم بالرغم من أن كتب الواحد فيهم تملأ أرففًا وتمثل مكتبة، وللإمام السيوطي - رحمه الله - أكثرُ من ست مئة مؤلَّف لا يكاد يُعرف معظمُها، ولآخرين مثلُه مما لا يستحق الاحتفاء بل الإخفاء.
** القيمة المضافة ثقافة غائبة.