خالد بن حمد المالك
قضيتُ ما مضى من عمري كله في بلاط صاحبة الجلالة -الصحافة- بكل تقلباتها، وأسرارها، ومعاناتها، وأمضيت فيها أجمل الفترات، ونلت منها الكثير من المنغصات، وبقيت وفياً لها، محباً للعمل بها، لا أنهزم بموقف كدّر خاطري فأضطر إلى الابتعاد عنها (برغبتي!)، ولم أشعر ذات يوم بأن علاقتي بها أصابها الفتور أو الملل؛ لأني واجهت مشكلة أصابني ضررٌ منها.
* *
كنت ولا أزال أرى فيها نفسي وسعادتي مهما أصابني من ضررها، ونالني ما نالني من تحديات بسببها، فقد كنت أواجهها بالصبر والتحمل والإصرار على بلوغ أهدافي في خدمة وطني من خلالها، هذا هو أنا في عزِّ الصحافة وأمجادها، هو أنا مع بعض انكسار تواجهه الآن، لم أتغير في أي موقف من مواقفي معها حتى مع ما تواجهه الآن من أوضاع ربما هزَّت مستقبلها، إن لم يأتِ من يحنو عليها، ويقف موقف الداعم والمساند لها.
* *
أقول هذا، والمؤسسات الصحفية بتاريخها الطويل، وبكل إصداراتها، وبجميع العاملين فيها، تمر الآن بمنعطف طريق خطير، ربما إذا ما تأخرت الحلول لمعالجة أوضاعها، وتم التباطؤ في أخذ القرار المناسب، قد لا نستطيع أن نمتلك القدرة في الاحتفاظ بها، بوصفها صوتاً قوياً، وواجهة مؤثرة في خدمة بلادنا، والدفاع عن مواطنينا، ونقل الصورة الحقيقية الصادقة- وبكل الإخلاص- عن وطننا الغالي.
* *
انحسر الإعلان، وهو مصدرها الرئيس في إيراداتها، فتبع ذلك نقصٌ حادٌ في موارد جميع الصحف، مما اضطر كل مؤسسة صحفية إلى المبادرة بالترشيد في الصرف، حتى وصل الأمر بها إلى المساس بما كان يُصرَف على عناصر القوة فيها، من استقطاب للكفاءات الصحفية والكتَّاب، ومن لجوء إلى تخفيض عدد الصفحات والكميات المطبوعة من الصحف.
* *
بل وبالغت المؤسسات في الترشيد مضطرة إلى ذلك، فألغيت مكاتب صحفية لها في الداخل والخارج، واستُغني عن مراسلين صحفيين في الداخل والخارج أيضاً، وتطور الأمر إلى تحجيم الإصدارات الإلكترونية في كل مؤسسة صحفية بعد أن أصبح الإنفاق على استمرارها غير مقدور عليه، وصولاً إلى هيكلة المؤسسات الصحفية بعمليات جراحية، بما مثل تراجعاً مخيفاً في استمرارها قوية كما كانت.
* *
تذكروا أنه قبل قيام المؤسسات الصحفية، كانت هناك صحافة ما سمي آنذاك بـ«صحافة الأفراد» واجهت الكثير من التحديات، ما استوجب التفكير والشروع بتحويلها إلى مؤسسات صحفية عملاقة، وإصدار نظام ينظم إصدارها، ويكرّس قدراتها، ويجعلها في موقع متقدم بين الصحف العربية، وهي هكذا منذ أكثر من خمسين عاماً وإلى اليوم، فلا ينبغي أن نفرط بإنجاز إعلامي كبير مضى عليه أكثر من نصف قرن، ونتركها لأقدارها، بسبب نقص الإعلانات التي تأثر حجمها بالانكماش الاقتصادي في العالم.
* *
هناك حلول وخيارات، ولكن المؤسسات الصحفية لا تملك وحدها القدرة على أن تعالج الموقف الخطير الاستثنائي الذي تمر به الآن بعد أكثر من خمسين عاماً على قيامها، وقد شهد الجميع بنجاحاتها المؤثّرة في خدمة الوطن الحبيب، هذه الحلول، وتلك الخيارات، أصبحت خارج سيطرة المؤسسات، وقدرتها على التعامل معها، إذ لم يبق أمامها الكثير من الوقت، والكثير من المال، للتصالح مع هذه المستجدات، هروباً من المستقبل الغامض.
* *
في سنوات مضت، وعلى مدى خمسة عقود، كانت المؤسسات تحقق أرباحاً كبيرة أغنتها عن طلب التدخل أو الدعم من الدولة، وكان جزءاً من هذه الأرباح يوظف لتطوير إصدارات المؤسسات الصحفية حتى أصبحت الصحف المحلية نموذجاً تباهي المملكة بمستواها، ومصداقيتها، وانتشارها، وتأثيرها على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي مقارنة بصحف عربية أخرى.
* *
أما اليوم، ومع عجز المؤسسات الصحفية، رغم الترشيد الحاد في المصروفات، والبحث عن موارد بديلة للإعلان، ومع إجراء هيكلة لها، واستمرار العجز في ميزانياتها، فإن الأمر يحتاج إلى تدخل سريع من أعلى سلطة في الدولة، خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله-، حتى لا تفقد المملكة مؤسسات صحفية عملاقة تم بناؤها وتطويرها لتؤدي رسالتها في خدمة البلاد على الوجه الأفضل والأحسن.
* *
ولا يخامرني أدنى شك، أنه متى ما وصل صوت المؤسسات الصحفية إلى صاحبي المقام العالي الملك سلمان والأمير محمد، وعُرض عليهما الوضع الحقيقي للحالة التي تمر بها المؤسسات الصحفية، فإنهما لن يترددا -كما اعتدنا منهما- في إيجاد مخرج لها من الوضع الحالي الذي تمر به، وفق رؤية تنسجم مع متطلبات رؤية المملكة 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020 وبما يجعلها قادرة على أن تمارس دورها الصحفي باقتدار، وتؤدي رسالتها الإعلامية كما يجب، متلمّسة مصلحة الوطن، بوصف الصحافة المحلية أحد المنابر الإعلامية الأهلية في نقل رسالة المملكة، ولأنها إحدى المنصات المؤثرة في الدفاع عن الوطن الغالي.