كتب - محمد المنيف:
كنت كلما شاهدت عملاً نحتيّاً في أيّ موقع في كثير من الدول المهتمة بهذا الفن الراقي، استحضر واقع فن النحت المحلي ودور النحاتين في مثل هذه الأعمال وحجم معرفة المسؤولين في أمانات المدن بهذا الفن وبالفنانين النحاتين السعوديين، مذكراً بما بادرت به أمانة محافظة جدة أيام عمل المهندس محمد الفارسي أميناً لها، الذي كان الوحيد في تقدير الفنون الذي أحال كورنيش جدة إلى متحف لأعمال نحاتين محليين وعالميين، في وقت قامت بقية الأمانات بتجمبل المدن بأعمال حدادين تمثلت في المباخر والدلال بشكل سيء وصادم للمشاهد.
أحببت أن تكون هذه المقدمة، مفتاحاً للحديث عن نموذج متفرد من النحاتين العرب سعودي الانتماء من مواليد الطائف، مؤهل تأهيلاً عالياً في الفنون بدرجة الماجستير وصاحب فكر وقدرات تجاوزت الدراسة إلى المنافسة، يحمل عقلاً مدركاً لكيفية التعامل مع إبداعه، يرى ويتابع ويعجب بما يراه من بعض تجارب النحت المحلية والدولية، يمزج كل ذلك في مختبره الذهني برؤيته الخاصة المتصلة بواقعه الذي يمثله مجتمعه وبيئته.. استطاع أن يقدم أعمالاً لا يجيدها إلا هو، حاول الكثير تقليدها فكانت جامدة لا حراك بها أمام حيوية منحوتاته.
ذلك هو الفنان محمد الثقفي، الفنان بكل ما يحمله من المواصفات، هادئ الطبع.. يمتلك نظرة ثاقبة.. يلتقط الجمال من فم الحجر.. لا يتوقف عن الظاهر من الحجر المعتاد عند المشاهد، أو كما ولد في الطبيعه، وإنما يحدث للحجر صدمة، ويطرح عليه الأسئلة ويصر بأدواته المتعددة على استنطاقه.
زرته في محترفه المتواضع كالزهرة التي تنبت بين الصخور ونخلة أثمرت في أصعب الأجواء، محترف بسيط ببساطة روح محمد الثقفي لا يتكلف بالحديث عن محترفه الذي لم يكن (ممكيجاً) بالديكورات أو الإضاءة والحوامل المستوردة من دول العالم وإنما يكشف بساطة صاحبه.. عشت وقت تلك الزيارة بحالة من الارتياح الممزوج بالإعجاب فقد كان المحترف عبارة عن مساحة داخل أرض مسورة، تمثل رحم تتكون به أعماله التي انتشرت في كل بيت ومكتب وفي أماكن كثيرة من العالم، أعمال يبحث عنها المقتني ولا تقف في معرض أو تعود إلى ذلك الحضن أو الرحم الأول، فهي تشب وتكبر في عيون من اقتناها أو يشاهدها، يتبادلها المختصون في تسويق الأاعمال الفنية محلياً وعربياً.
• جولة في محترف الفنان الثقفي
أول ما تقع عين الزائر عند دخوله محترف الفنان محمد الثقفي مجموعة (بكر) لم تمسها أدوات النحت، أحجار أخذت مكانها في إحدى الزاوية تنتظر دورها لمرحلة الولادة لتنظم إلى الأعمال المكتملة في الغرفة المخصصة لها، والتي تضم مجموعة منها من مراحل سابقة ومنها أعمال حديثة تنتظر دورها للعرض في معرض خاص أو مشاركة في معارض، لا يمكن لأي زائر لأي منها أن يتخطى تلك الأعمال أو يتجاهلها دون الوقوف أمامها طارحاً الأسئلة ومحاوراً لكل جزء، بدأ بالخطوط الخارجية للمنحوتة التي تنساب كرمال النفود، مفعمة بالحيوية والإيحاءات مروراً بالعلاقة التي تنشأ بين الكتلة والفراغ، بل يذهب الزائر إلى عمق وكثافة العاطفة التي يشحن الفنان الثقفي أعماله بها فينتقل الزائر من تلك الحالة مع تلك الإبداعات (الثقفية) العلامة العالمية للفنان إلى تخيل ما يحمله النحات محمد الثقفي من بعد فكري وموضوعي سبقه الاعتناء بالشكل دون ابتذال، استحضر الفنان فيها تاريخ النحت مختزلاً في عقله الباطني مشاهدات سابقة لكل منابع النحت تاريخيا فهو يحمل درجة الماجستير في الفنون مطلع بشكل كبير لكل ما وصل إليه النحت من حداثة تتجاوز التمثيل أو التشبيه المباشر للجسد.
• علاقة غامضة بين الثقفي وإبداعه
لكل فنان طقوسه ولكل مبدع عالمه الذي لا يمكن لأي منا الوصول إليه مهما أوهمنا عند شرح أعماله بأن ما تظهره تلك الأعمال يطابق ما يقول، إلا أن الفنان لا ينفصل عن واقعه وعن دور إبداعه كرسالة للآخر قد تكون جمالية العبارة والوصف أو توثيق لشيء مضى من خلال استحضاره، فالفنان محمد الثقفي يقدم الإشارة والتلميح تاركاً للجمهور التأويل دون تدخل، مانحاً القطعة النحتية التي ينتجها بطريقته وأسلوبه المتفرد كل ما يشعر به من تحريض وجداني يصبح كالوميض الذي يدله على لحظة التجلي مع الخامة عند التنفيذ، هي في الأصل قد تشكلت في العقل مسبقاً لكنها لا تتنازل عن ما يمكن أن تنتهي إليه، حوار يصل بالفنان إلى حالات من المواقف الصعبة بين الذات وبين ما يتطلبه العمل لحظة إبداعه. والفنان محمد الثقفي وهب الموهبة الفنية ومنحه الله الهدوء، فكان بهما قادراً على أن يوجد سبلاً للتفاهم بينه وبين ما يبدعه.
يعتمد الفنان الثقفي في أعماله على التكوين بجدارة ويجيد التعامل مع الكتلة في أي وضع إن كانت تتجه نحو الاستطالة الرأسية أو إلى التكوير والالتفاف حول نفسها أو التمدد الأفقي، فلكل وضع منها معالجته يريح فيها القطعة الحجرية ويضفي عليها ما يتناسب مع ما تشكلت عليه فتتحول إلى قصة أو رواية أو قصيدة يسمعها المشاهد بالعين ويطرب لها الوجدان.
استطاع الفنان الثقفي أن يقترب إلى تشكيل الجسد البشري بالمسافة التي لا تضعه في (مصيدة التسلل) التي وقع فيها البعض، تعرضت للنقد والرفض.. فقد كان الثقفي أكثر حرصاً على عدم مصادمة أي رأي أو اعتراض نتيجة وعيه بثقافة مجتمعه، كان الثقفي ذكياً في الجمع بين إبداعه ومحيطه فزاوج بينهم بذكائه بأسلوب ساحر مفعم بالسحر الحلال.
السؤال الأهم لأعمال هذا المبدع وأمثاله من أصحاب الفكر الراقي والمعاصر لفن النحت: (هل تبقى هذه الأعمال مسجونة في صالات المعارض المؤقتة نتيجة صغر حجمها. أو تكون متاحة للعامة في متاحف متخصصة).