في هجير الصيف، وبعد سفر مضنٍ، وبين زحام المصلين وتدافع المعتمرين، هناك عند الصفا انبعث صوت دافئ حنون يفيض رقة وينبض رجولة منشدًا: (يا الله يا بطة, يا الله يا بطة)، وكان صاحب هذه المقطوعة العذبة زوج جاوز السبعين قد تصبب عرقًا ويكاد يسقط من الإعياء, يشجع بها حبيبته التي جاوزت الستين وقد أنهكها المرض وأثقلها اللحم لتصعد إلى العربة، وبعد جهد جهيد وبتحفيز وتشجيع وكلمات حب رقيقة صعدت الحبيبة إلى العربة، فكأنما هي ملكة قد تربعت على عرشها، ومضى العاشق يدفع (قلبه) إلى العربة وتطير بهما ضحكات وتحلق بهما همسات خجلي ترسم للحياة أجمل الصور، سمعت هذا الموقف من أحد الفضلاء وقد رأيت فيه وفاء قد استقر في الأعماق وحبًا قد تجذَّر في الوجدان وتشرّبته الجوانح وأخذ بمجامع القلب، قد بسط عليها جناح حبه ووده، فتعانق الفؤادان واستحالا فؤادًا واحدًا ينبض بنبض واحد ويشعر بشعور واحد، يراها شمسًا لحياته وينبوعًا لسعادته، أشرقت روحه بالحب فأشرقت في نفسه شمس الوفاء.
ولا أنسى موقف إحدى قريباتي من زوجها الذي أصيب بجلطة آخر حياته، فكانت تتلذذ بالسهر على راحته، مستمعة لأنفاسه، مصغية ومتفاعلة مع آهاته. قلب يبكي لأجله وعين تبكي ألمه، تشاهد حببيها يذبل يومًا بعد يوم وهي واقفة بقربه تؤازره وتواسيه وتخفف آلامه وتصبره على مصابه.
إن الوفاء يوقع في نفس صاحبه فرحًا دائمًا وسرورًا لا ينقضي، فلا يزال في خير وتوفيق ما بقي وفاؤه.
الوفاء جميل اسمه، عذب رسمه، الوفاء لذيذ طعمه... لله أنت يا أبا القاسم! اللهم صلِ وسلم عليه رمزًا شامخًا للحفاظ على العهد وينبوعًا صافيًا لا يجف من الوفاء، وعند مسلم أن الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذبح شاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة...»
فَاِنَّ فَضلَ رسولِ اللهِ ليس له
حَدٌّ فَيُعرِبَ عنهُ ناطِقٌ بِفَمِ
وفي المقابل سمعت قصصًا مظلمة ومشاهد بشعة من نكران العطاء وجحود التضحيات تروع الخاطر وتستدر الدمع، يرزق أحدهم بحفنة ريالات أو شهادة أو منصبًا أو تبتلى الزوجة بمرض أو بعدما تهدها سنوات العطاء والذل فتذوي الوردة ويأفل النجم، والمكافأة كلمات بذيئة ونفس نزقة ويد مغلولة وإهمال يحطّم الصخر، وقد يحرق قلبها ويكسر مشاعرها بزوجة ثانية، ويحبس بها الفرح في محاجرها، ويشنق طيور السعادة في حياتها، ويهدي لها أشواك القهر القاتلة، في حين يقدم للزوجة الثانية كل وقته واهتمامه وماله. أهكذا يقابل المعروف ويجازى الإحسان؟!
وهناك بعض النساء إذا تقدّم العمر بزوجها أو زاره شيء من نوائب الدهر وفواجع الزمان أخذت دور النكدية الجاحدة، حيث سلاطة اللسان وبذاءة التصرفات.
ألا يخشى هؤلاء عاقبة الظلم؟! كيف ينام هذا الرجل وقد سلب زوجته كرامتها وأفسد عليها حياتها؟! ليتذكر أن يومًا قريبًا سيأتي وسيقاد منه.
أيها الزوجان، أشعلا جذوة الحب واسقيا ورود الود، واعلما أن الحب لا يؤقت بعمر ولا يحد بزمن.
عند الحب حياة يهون من أجلها الموت، وموت تُباع من أجله الحياة!