د.عبدالله مناع
في شهر يناير من عام 2014م.. ثم قبول ملف (جدة التاريخية)، الذي أعدته بالتعاون كل من: (الهيئة العامة للسياحة والآثار)، و(أمانة محافظة جدة)..لـ (تقديمه) لـ(لجنة التراث العالمي الإنساني) التي كانت تعقد جلساتها آنذاك في العاصمة القطرية: الدوحة، وفي الحادي والعشرين من شهر يونيه من ذات العام.. تم تصويت (اللجنة) بـ (الإجماع).. على ضم (جدة) إلى قائمة (حماية التراث العالمي الإنساني) التابعة لـ (منظمة اليونسكو) للعلوم والثقافة والآداب والفنون، لـ (تفرح) المملكة العربية السعودية وتسعد، ولـ (ترقص) جدة وأهلها وسكانها ومن اختاروا العيش فيها - من أبناء الوطن -.. طرباً له.!؟ لأتساءل في حينها من مواقع قلقي وخوفي على (جدة) ومبانيها التراثية.. الباذخة الجمال!! ترى من الذي سيتولى ترميم مبانيها والحفاظ عليها وعلى مساجدها وبواباتها وبرحاتها وأسواقها التاريخية: كـ (الخاسكية) و(العلوى) و(سوق البدو) و(سوق الجامع) و(السوق الكبير) والبقية الباقية من (سوق الندى).. أمام (اليونسكو) وحملاتها (التفتيشية) التي تقوم بها عاماً بعد عام في ظل غياب دعم مالي ضخم، كذلك الذي تم اعتماده لـ (الدرعية).. فأعاد بناءها - على هيئتها - التي كانت عليها.. من جديد: أهي (الهيئة العامة للسياحة والآثار).. أم هي (المحافظة).. أم هي (الأمانة) أم هم (الملاك) و(السكان) الذين ليسوا جميعاً في غنى أغنياء جدة.. من أمثال (الشربتلي) أو (الزينل) أو (الباعشن) أو (الناظر).. مثلاً ! ليقدم الملك عبدالله - طيب الله ثراه - منحة بأكثر من ستين مليون ريال لـ (ترميم) مساجدها التاريخية: كـ (الشافعي) في حارة المظلوم و(الحنفي) في حارة الشام الذي كان يصلي فيه الملك عبدالعزيز صلاة (الجمعة)، و(المعمار) الذي يتوسط أحياء جدة الكبرى الثلاث: المظلوم واليمن والبحر.. و(المغربي) في حارة اليمن أو بالقرب من (باب مكة).
لقد آثرتُ.. منذ الإعلان عن تلك التواريخ الهامة في حياة جدة ـ والمهرجانات التي سبقتها ولحقتها في كل عام: ألا أنقطع عن التردد على الجزء الشمالي الشرقي من جدة التاريخية.. أما الجزء الغربي منها وبامتداد السوق الكبير وشارع الملك عبدالعزيز.. الموازي له، فقد كنت وما أزال أتردد عليه - أكثر من مرة كل عام - للتسوق.. ولزيارة محل: عم ناجى.. (الكببجي) الشهير وخليفة (عم غالب)، الذي علمه وعلم آخرين الكيفية التي يتم بها اعداد (أشهى كباب) في مدينة (جدة).!!
وقد أفادني هذا التردد على (جدة التاريخية)، ومكنني من متابعة خطوات ترميم المبانى، وترصيف الشوارع والأزقة والبرحات.. لأسعد بذلك الترميم الرائع لـ ( مسجد الشافعي) في حارة المظلوم بجوار مبنى (وقف الشافعي) الشهير بـ (أدواره) الأربعة الفارهة، وبـ (ترميم) (مسجد الحنفي) في حارة الشام، وما يجري من أعمال ترميمية في (مسجد المغربي) بـ (العيدروس) أو منطقة (باب مكة).. أما مسجد (عكاش) في قلب جدة التجارية فله أملاكه وموارده التي تمكنه من الترميم وقتما يشاء دونما حاجة إلى أموال مساعدة أخرى.. تأتيه من هنا أو من هناك..! وبـ (الترميم) المعجز.. لـ (بيت الشربتلي) في حارة الشام، الذي فاجأ الجميع بـ دقته.. حتى بدا البيت في صورته الحديثة. وكأنه أجمل من البيت في صورته (السابقة).
أما (بيت زينل) في حارة الشام، فإنه لا يحتاج إلى ترميم.. بقدر حاجته إلى إعادة (تأهيل) لتشغيله والاستفادة منه.. خاصة وأن موقعه على الجزء الشمالي من شارع الملك عبدالعزيز في جدة القديمة يخدمه أكبر خدمة، أما (البيت الذهبي) الذي يُبكى عليه.. فهو (بيت القمصاني) في حارة المظلوم الذي احترق - كما قيل - بفعل فاعل.. وطويت صفحته مأسوفاً عليها..!
وبرغم المفاجأة السعيدة التي أحدثها ترميم بيت (المتبولي) غير المتوقع.. في (العلوي) ، إلا أن (الحيرة) تأخذنا أمام (بيت الجخدار) المعجز برواشينه الخشبية الضخمة في حارة اليمن، والذي لا أدري ما سبب تعثر (ترميمه).. رغم الحماس الذي كان وما يزال يبديه أصحابه لـ (الحفاظ) عليه..!!
لقد كان لـ (قرار) اليونسكو.. بضم جدة لـ (قائمة التراث المعماري الإنساني العالمي) الذي يتوجب الحفاظ عليه لـ (ندرته).. ما لا يحصى ولا يعد من (الفوائد): فإلى جانب إنقاذ المدينة، والاعتراف بـ (القيمة) الحضارية لمعمارها المتميز.. فإنه لانهاية ولا حصر لتلك الفوائد.. التي كان من بينها: عودة الكثيرين من أهلها وسكانها ومن اختاروا العيش فيها.. ثانية إليها ؟!
لـ (ترميم) منازلهم وإعادة استخدامها بصور مختلفة.. بل وعاد بعضهم لـ (شراء) أو (استئجار) منازل جديدة.. وترميمها على نفس النسق المعماري الذي كانت عليه.. ثم استخدامها، كما فعل الصديق - الاستاذ هشام بنجابي - الرسام والفنان التشكيلي المعروف، الذي اشترى - أو استأجر - أحد أجمل بيوت حارة الشام في (برحة العتيبى) وهو بيت الأستاذ محمد علي عبده (مدير الكنداسة) - المياه المحلاة - في ذلك الزمان، وأعاد ترميمه على نسقه الباهر والجميل.. ليكون (مرسماً) له ولزملائه الفنانين التشكيليين.. و(معرضا) لأعمالهم الجديدة، أو كما فعل الزميل العزيز الأستاذ أحمد باديب.. عندما اشترى بيتاً آخر في طلعة (حارة المظلوم) - غير بيتهم في إحدى برحات الحارة - ليرممه ويؤهله.. وعلى أرقى مستوى - ليكون مقراً لـ (الملتقى الأدبي) الذي يحمل اسمه لإجراء الندوات واللقاءات وإقامة المحاضرات.. في رحابه.
لكن المفاجأة الأعظم في هذه الجولة الزمنية..التي كانت بانتظاري عندما دعتني الزميلة الأستاذة الدكتورة: إيمان أشقر.. أخصائية أمراض (القلب) في مستشفى الملك فهد.. فـ (مستشفى الملك عبدالله) بأبحر الشمالية.. لزيارتها بـ (مقعد بنت لال) في أحد مباني (حارة الشام) بجدة التاريخية.. الذي اشترته وقامت بترميمه وفرشه وتأثيثه ليكون (نادياً) اجتماعياً لـ (المثقفين)، وقد زودته بكل ما يحتاجه (النادي) من ألعاب: كـ (الطاولة) و(الدومينو) و(الشطرنج).. بل وحتى (الكيرم) التي لم يعد يلعبها أحد.. دون أن تستقر على (اسم) لهذا (المقعد) أو (النادي)، وقد وضعت في مدخل المبنى أو في (دهليزه) الصغير مجموعة أعمالها الشعرية: (كحلي والخضاب)، و(عزف منفرد) و(ساهرة) و(أول فصول الخيانة) و(بنت لال).. الذي سمت (النادي) أو (المقعد) باسمه، فهي طبيبة وأديبة يُخشى اختطافها من عالم الطب وتخصصها النادر.. إلى عالم الكلمة الشاعرة التي تعشقها..!!
لقد كان انضمام جدة التاريخية له قائمة (حماية التراث العالمي الإنساني) التابعة لـ (اليونسكو).. خيراً وبركة عليها، وهو ما نرجو أن يستمر بذات القدر والكفاءة.. دون السماح لأي إحداثات أخرى من المباني الربحية.. والتي يقال عند السؤال عنها إنها: مؤقتة.!
ثم بمضي الوقت و(النسيان) تتحول (المؤقتة) إلى (دائمة).. كتلك التي ظهرت فجأة في (برحة العتيبى).. قبل عام أو عامين، ولم تزل قائمة إلى يومنا هذا.