د.عبد الرحمن الحبيب
إذا كانت الإدارة الأمريكية الجديدة أربكت دول العالم في فهم سياساتها الخارجية، فقد آن أوان فهمها عبر وثيقة «إستراتيجية الأمن القومي» الأمريكية التي صدرت الشهر الماضي. هذه الوثيقة تتشابه مع مثيلاتها السابقات (بوش: 2002، 2206؛ أوباما» 2010، 2015) في المرتكزات الرئيسية، لكنها تختلف معها في درجة التركيز فيها.
إلا أن الأهم هو الفكرة الجديدة التي طرحتها هذه الوثيقة، فبدلاً من التأكيد على قيادة أمريكا لنظام عالمي بطريقة دبلوماسية فهي تطرح معها أيضاً وبالتوازي فكرة المنافسة الطبيعية بين الدول الكبرى بطريقة تشابه التفكير الدولي في القرن التاسع عشر المتعدد الأقطاب!
تتفق هذه الإستراتيجية مع سابقاتها الأربع بأن الأمن القومي الأمريكي يرتكز على ثلاثة أسس: القوة الاقتصادية لأمريكا، ومواجهة الخطر العسكري (روسيا والصين)، والتهديد الإرهابي. أما الاختلاف فيظهر سريعاً في مقدمة الوثيقة بنبرة قومية أعلى ونبرة عالمية أقل، والتي تمثِّل العلامة الفارقة المميزة لها: «إنّ إستراتيجية الأمن القومي هذه تضع أمريكا أولاً».
إعطاء عبارة «أمريكا أولاً» كعلامة فارقة لهذه الإستراتيجية يرى كثير من المراقبين الأمريكان أنه مؤسف؛ لأنها في الفكر الديمقراطي الليبرالي الغربي قد تشير إلى الفكر النازي، أو على الأقل إلى العزلة مستدعية السياسات الأمريكية الأخيرة: السعي للخروج من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، والتخلّي عن الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، والانسحاب من اتفاق باريس.. إلخ؛ وكأن الإدارة الأمريكية تذهب وحدها في الشؤون العالمية، مما يشكِّل فهماً ضيق الأفق وقصير الأمد للمصالح الأمريكية حسب جيمس جيفري (باحث وسفير أمريكي سابق). لكن نصوص هذه الوثيقة فسرت «أمريكا أولاً» بطريقة مرنة، مثل: «نحن ندرك المزايا المهمة التي توفرها علاقاتنا القوية مع الحلفاء والشركاء»؛ «.. نفوذ أميركا في العالم كقوة إيجابية يمكنها المساعدة لتهيئة الظروف للسلام والازدهار ولتنمية مجتمعات ناجحة..».
أما بالنسبة للمنافسات التي تشكِّل تحدياً أو تهديداً فأهمها حسب الوثيقة: «ثلاث مجموعات رئيسية من المنافسين: القوتان التعديليتان روسيا والصين، والدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية، والمنظمات المهدِّدة للدول، لا سيّما الجماعات الإرهابية الجهادية»، وكلّها «تنافس بنشاط ضد الولايات المتحدة وحلفاءنا وشركاءنا».. بعدها تأتي المنافسات الفرعية من «صراعات سياسية بشكلٍ أساسي بين أولئك الذين يفضّلون الأنظمة القمعية ومَن يفضّلون المجتمعات الحرّة»، مما يجعل العالَم في وضعٍ معلَّق، حيث لا يعيش الخصوم في حالة سلامٍ أو حربٍ، بل في «ميدان المنافسة المستمرة».
كلمة «المنافسة» أو ما يرتبط بها ظهرت 75 مرة في الوثيقة (بيتر فيفر، فورين بوليسي)، وغالباً ما يشار إلى شركاء أمريكا كمنافسين أيضاً، أو لعدم قيامهم بما ينبغي عليهم فعله.. ذلك يضيف رؤية عالميةً مختلفة عن الإستراتيجيات الأمريكية السابقة، تعود للقرن التاسع عشر أكثر منها للقرن العشرين.. فعلى سبيل المثال، تؤكّد هذه الرؤية أن «المنافسة على القوة هي استمرارية أساسية في التاريخ. والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة». بينما الإستراتيجيات السابقة ركَّزت على الدبلوماسية، بصفتها تنظّم وتدير نظاماً عالميّاً تعاونيّاً (جيمس جيفري).
من هذا المنطلق التنافسي تتعهد الوثيقة بأن أمريكا «لن تفرض قيمها على الآخرين»، مشدّدة على الإرادة الحرة والمصالح المشتركة، مخالفة طرح إستراتيجية أوباما عن الحتمية العالمية للديمقراطية الليبرالية، رغم أن الوثيقة الحالية عادت وأكدت: «سوف نستمر بدعم القيم الأمريكية وتقديم التشجيع لأولئك الذين يكافحون من أجل كرامة الإنسان في المجتمعات».
بالنسبة للشرق الأوسط، فلم ينل إلا جزءاً واحداً قصيراً خُلطت فيه العناصر: التوسع الإيراني، انهيار الدولة، الجهاديين، الركود الاقتصادي، الخصومات الإقليمية كمولّدات لعدم الاستقرار. أما موضوع الهجرة فقد كان أكثر مرونة وأقل قساوة مقارنة بخطابات ترامب وأوامره التنفيذية، وإن لم تكن كالوثائق السابقة المؤيّدة للهجرة.
لفهم العلاقة الجديدة لأمريكا مع العالم علينا أن نجيب على سؤال أساسي متفرّع: إلى أي حد ستحافظ أمريكا على النظام العالمي التقليدي الذي تريد قيادته على المدى البعيد مقابل تركيزها على المصالح الأمريكية المباشرة على المدى القصير، ومقابل قبولها بالتنافسية على طريقة القرن التاسع عشر المتعدد الأقطاب؟ وهل ستتخلّى أمريكياً عن تحالفاتها الأساسية التي امتدت لعقود، مكتفية بالتعاون الدولي المستند على المعاملات القصيرة الأجل؟
يبدو أن وثيقة الإستراتيجية الحالية لم تجب عليها بوضوح، فهي مفرطة في مرونتها تقول الشيء وخلافه، إنما خلاصتها أنها تتوافق بشكل عام مع سابقاتها لكن مع التركيز أكثر على المصالح الأمريكية المباشرة.. وعموماً تظهر هذه الإستراتيجية أنها أقرب للإستراتيجيات السابقة من خطابات ترامب وقراراته التنفيذية.
وإذا كان هذا الاستنتاج قريباً من الصحة فقد نشهد عودة أمريكا لبعض سياساتها السابقة وللاتفاقات الدولية التي هدّدت بالانسحاب منها أو انسحبت منها فعلاً كما شهدنا مؤخراً بأنها قد تعود لاتفاق باريس، مع الإبقاء على مطالبة الشركاء والحلفاء بالمساهمة في دفع التكاليف.. كما أننا قد نشهد استمرار عزوف أمريكا عن قضايا الشرق الأوسط، وسينصب التركيز الأساسي على المنافسة الاقتصادية (أو العسكرية) مع الصين وروسيا وغيرهما من الاقتصاديات الكبرى، وتخفيف التوتر مع أوربا، وزيادته مع كوريا الشمالية وإيران والصرامة في مواجهة المنظمات الإرهابية..