عبدالله بن موسى الطاير
عندما اجتمع الناس في ميدان التحرير في مصر عام 2011م كان المنظمون قد سبقوهم إلى ميادين افتراضية وأنشطة خارج الحدود صقلت السخط في نفوسهم وبلغت به مبلغ التمرد. الحشود التي كانت تزفهم وتحول التذمر إلى ثورة شاركتهم بطموحات وارمة، وحينها كتبتُ بأن كل واحد في الميدان يرى في نفسه الأكفأ والأحق بأن يكون رئيس مصر القادم. التطلعات الجماعية لامست عنان السماء ولكن القدرات الفعلية للمحتشدين لم يطرأ عليها أي تغيير. (تيد روبرت غير) مؤلف كتاب «لماذا يتمرد البشر» الذي نقله إلى العربية مركز الخليج للأبحاث عام 2004م يفسر الظاهرة بأن الفارق بين قيم الطموح وحقيقة قدرات الطامحين تولد سخطا قابلا للتفجر.
ازداد الأمر سوءا منذ عام 2011م حيث تضاعف الإقبال على شبكات التواصل الاجتماعي، وازدهرت الظروف المواتية، وولدت قيادات افتراضية أكثر شراسة وأقل منطقا. يتكتلون بناء على تقارب نفسياتهم ومعتقداتهم وتطلعاتهم؛ يتصورون أن بيدهم الحل والعقد، وأنهم يمتلكون قرار إقالة مسؤول من منصبه أو تنصيب آخر، وإصدار الأحكام النهائية بالفساد أو النزاهة، ومنح شرف المواطنة، وإصدار تهم الخيانة؛ فهم الذين يوقدون نيران الحروب الكلامية ويطفئونها، ويرفعون الناس ويضعونهم. ولأن الدول لا تسمح لأحد أن ينازعها صلاحياتها فإنه يصدمون بين الحين والآخر أن أحدا لا يعيرهم أهمية، فيكتشفون أن حالهم أشد بؤسا من شخوصهم، وينقلب الفارق بين الحماس المفرط والواقع المحبط إلى سخط يتعاظم ضد الدول والمجتمعات.
القيم الحاكمة للعلاقات بين البشر من جانب، وعلاقاتهم بالسلطات من جانب آخر تضطرب في أزمان الفوضى، ويكون من أعراض اضطرابها ولادة خطاب متهافت، وتفشي حالة من عدم اليقين مصحوبة بالشك والريبة والرغبة الشديدة في الاستحواذ والانتقام، واستخدام الأسماء الوهمية والمعرفات المجهولة للإفلات من العقوبات التي تصاحب ردود أفعالهم التي تخالف الأنظمة وتنتهك القوانين، وما استقرت عليه الأعراف، تماما كما يفعل مثيرو الشغب في المظاهرات السلمية.
انفلات اللغة مؤشر حقيقي على انفلات القيم، وانفلات القيم يؤدي إلى ضمور الضوابط المنظمة لتفاعل الناس مع بعضهم. ضجيج شبكات التواصل الاجتماعي وصخب المعارك الكلامية، والاستعداء المتبادل، ونشوء صداقات مع غرباء بسبب توافق الرأي، واستعداء أصدقاء بسبب اختلاف الرأي يفاقم الاحتكاك السلبي بين مكونات أي مجتمع. كما أن تراجع المنطق، والفجور في القول وغياب التسامح وسرعة إصدار الأحكام المصحوبة بالتصنيف والإقصاء والرغبة الجامحة في تدمير سمعة الآخرين بناء على الظن تلقي بظلالها على عمليات هندسة المجتمعات. ففي حين يرى المخطط أن تشجيع الوطنية المتطرفة، والعنصرية، والنازية، والفاشية والتوحش والعدوانية عبر المنصات الافتراضية يجعل الناس أكثر امتنانا وتمسكا بواقعهم، فإن المخطط ذاته يعمل على تحويل مجتمعات محافظة في علاقاتها الاجتماعية والسياسية إلى ثورية قابلة للاشتعال لأي سبب.
السكوت عن هذه الظواهر المتنامية أو التوسع في تشكيل هكذا تكتلات واستغلال القائم منها، بزعم توجيهها لضرب خصوم الدول يمرق من بوابة ضرب المجتمع بنفسه، وتعزيز سلطات شعبوية منافسة لسلطات الدول الرسمية. رأينا ذلك في غير بلد عربي من الدول التي سقطت في السنوات الماضية عندما أصبحت المواجهة بين النظام والفوضى حتمية.
الباحث الأمريكي جريجوري جوس ضيف ملتقى أسبار رأى في حلقة نقاش بالرياض أن أمريكا لم تعد راغبة في إعادة تقسيم منطقتنا، ولكنها ترى أن المستقبل سيكون لسلطات أصغر داخل الدولة الواحدة تتكامل أو تتناحر مستدلا بلبنان واليمن والعراق وليبيا. الباحث نفسه ذكّر بالدول الحقيقية الراسخة في المنطقة ومنها السعودية ومصر وإيران التي صمدت على مدى قرن كامل في مواجهة التحديات الوجودية التي تعرضت لها.
وأختم بالقول: إن تشكيل خلايا افتراضية متناحرة، وتشجيع لغة متمردة على ثوابت المجتمعات المحافظة يجعل الناس أكثر جرأة وتهورا مما يعرض البنى الاجتماعية والسياسية للخطر.