د. حسن بن فهد الهويمل
متى كانت الأفكار متخوفة متخلفة، تصبح المكونات السكانية جزءاً من المشكلة، ذلك واقع [الأمة العربية] التي تعاني من رواسب العادات، ونمطية الحياة، وهيمنة الخطاب المثالي المتعالي على واقعه.
المعوقات، والمعوقون بحاجة إلى مواجهة متدرجة، متخولة تحت أي مسمى.
وأيُّ حركة إصلاحية سواء كانت في مجال الدين، أو في مجالات الحياة الدنيا تقتضي تضحيات على مستوى السمعة، أو الحياة.
في المجال الديني بَشَّرَ الرسول صلى الله عليه وسلم:
[يَبْعَثُ اللهُ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ عَامٍ مَن يُجَدِّدُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ دِيْنِهَا].
وفي مجالات الحياة الدنيا نجد الساسة، ومن ورائهم الخبراء والعلماء والمستشارون يَسْتَبِقُون التجديد، ويفتحون أسواقهم، وأدمغتهم للتقنية الحديثة، والرأي السديد، وما تتطلبه الحياة من أساليب حديثة، دون المساس بالثابت: القومي، والديني.
التاريخ الحديث يفيض بالمصلحين الدينيين، والسياسيين، والاقتصاديين، والاجتماعيين، وهم بإقدامهم، وتضحياتهم مجالُ الحديث الجائر، والتوهين المزري.
المصلح [ابن عبدالوهاب] - على سبيل المثال - حين جاء بدعوته السلفية الإصلاحية الصالحة، لم يُجْمِع العلماءُ، ولا الأمراءُ على قبولها.
بل عارضه الأقربون كأخِيه [سليمان] وأميره [ابن معمر]. واختلافُ علماء عصره معه لم يكن كله اختلافَاً حول الأصول.
واستغلال أعداء الدعوة لهذا الاختلاف المتوقع، ترك أثرَه السيئ على مَحْدودي الفهم، والعلم، ممن لم يستوعبوا ظروف المرحلة، ولم يدركوا مستويات الاختلاف، وتباينه.
وإذ قام الاختلاف داخل المنظومة السلفية، فإنه قائم فيما سوى ذلك، وبخاصة في مجالات الإصلاح الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي.
ليست الإشكالية في الاختلاف، ولا في تعدد وجهات النظر. ذلك أن إكسيرَ الحياة، وحيويتَها واستمراريتَها تكمن في التناقض الموجَّه.
الإشكالية في حسن التعامل مع المخالف. من المصلحة ألا يكون اختلاف، ولكنه كائن - ولا بد -: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. وإذ يكون حتماً فإن من الحصافة، والرصانة أن يُروّض المرء نفسه عليه، وأن يسعى لتوجيهه الوجهة الحسنة، بحيث يكون إيجابياً.
الاختلاف نعمةٌ حين يتلقاه العلماء، العقلاء، المجربون. ونِقْمةٌ حين يبادره السفهاء الخليون، المهتاجون.
كل المشاهد تتسع للشيء ونقيضه، فكيف إذا كان الاختلاف اختلاف تنوع معتبر.
دول العالم النابهة لا تتردد في تعهد نفسها، ومراجعة أشيائها، لتفادي إفرازات الجمود، والتخلف.
الذين قالوا: [الاختلافُ لايُفْسِدُ لِلْوُدِّ قَضِيَّة] متفائلون، إذ من الممكن أن لا يكون هناك صدام، ولا صراع.
الجدل، والحوار، والمراجعة حَصَلَتْ بين كل الفئات، حتى بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، في مواقف كثيرة. وما تطور شيء من ذلك إلى صراع، أو صدام.
هناك اختلاف يتسع لكل الأطياف. وهناك مُصَادَرَةُ للحق، يَضِيقُ معها العطن، مثلما أن هناك سلطةً مشروعةً، وتَسَلطاً مقيتاً مرفوضاً.
الذين يستغلون الاختلاف لمصادرة حق الآخر، والذين يستغلونه لانفلات الأمور، وتعطيل النصوص، لا يضيفون إلا الوبال، وسوءَ المآل.
علماء المسلمين أحسنوا ترويض الاختلاف، ووجهوه لنماء الأفكار، وثراء المعارف، وحيوية العالم.
المذاهب الفقهية [المالكية]، و[الحنفية]، و[الشافعية]، و[الحنبلية]، و[الظاهرية]، والمجتهدون من رموز العلماء المستقلين، لم يخفقوا في ظل الاختلاف. والذين جاؤوا من بعدهم، أو بعض أولئك، لم يكونوا موفقين، حين جنحوا إلى الأثرة، والتعصب، وشخصنة الاختلاف.
نحن لا ننكر ما يدور في كتب [الطبقات]، و[المناقب] من سخرية، واستهجان، واستخفاف بالمخالف، ولكنه جُنُوح لا يمثّل المذاهب المعتبرة، وإنما يشكل مرحلة الجمود، واجترار المعارف. إنه لا يمثّل من رحبت صدورهم، واطمأنت أفئدتهم، ووسع علمهم ما قالوا، وما قال غيرهم.
ما يخلفه الإصلاح الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي لا يختلف عمّا يخلفه الإصلاح الديني من تفاوت في الآراء، واختلاف في الرُّؤى، وتخوف لا مبرر له.
من الخير ألا نختلف، ولكن حين نختلف، يجب أن نأطره في آية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}. وفي آية: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}. ولا ندع له فرصة الاستمرار، والتناحر، وإحراق القضايا.
النابهون يجدون لذتهم في التغيير إلى الأفضل، ومراجعة القائم، لأنها تُشَكِّل عصفاً فكرياً، يفتق الأذهان، ويحفز المشاعر، ويشد الانتباه، ويحول دون تخلف الأمة.
نحن جزء من العالم بكل تناقضاته. والذين يريدون أن يجعلوا بيننا، وبينه سداً، لا يُظهر عليه، ولا يُستطاع نقبه. يُمِيتون أمتهم، وإن كانت تدب على الأرض، فالموت ليس وقفاً على مفارقة الحياة، الموت في الاعتزال غير المشروع.
من حقنا أن نعتزل العالم في [دينهم] وحسب. وهذا الاعتزال لا يحول دون التفاعل، وتبادل الخبرات الحياتية، واستثمار الأنظمة، وطرق البناء، والتنمية.
[الأمة الإسلامية] متخلفة، هذه حقيقة لا يماري فيها إلا السفهاء. وتخلفها لا يُحال إلى [إسلامها]، بل يحال إلى [المسلمين] الذين اتخذوا دينهم لهواً، ولعباً، وغرتهم الحياة الدنيا.
لا تعارض بين [الدين، والعلم]، ولا بين [الدين، والمدنية]. الإسلام دين العلم، والثقافة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.
و[العلماء] هنا حسبما أرى، وأتحمّل مسؤوليته، ليسوا هم [الفقهاء] وحدهم، وإنما هم علماء السنن الكونية الذين اكتشفوا بمعاملهم، ومختبراتهم، وتجاربهم، ومُكْتشفاتهم شيئاً من نظام الكون المادي.
يؤيّد ذلك سياق الآية: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}.
ما سبق يخص علماء الكون، التجريبيين. أما [الفقهاءُ] و[علماء الكلام] النظريون، فقد ذكرهم الله بعد ذلك مباشرة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ}.
فالعلم التجريبي يهدي إلى [الإيمان] بالخالق، والعلم النظري الاستنباطي يهدي إلى عبادته.
هناك قِراءةُ للكون، وهناك قِراءةٌ للكتاب. و[الإسلام] طائر يخفق بهذين الجناحين.
سنكون في النهاية جُزْءاً من المشكلة، إن لم نكن قادرين على التلقي السليم لكل المستجدات، وما لم نكن قادرين على التعامل معها بأسلوب حضاري، يحتفظ بالثوابت، ويساير فيما سواها، ويحسن الظن بالمصلحين، والمجددين على مختلف المستويات، والتنوعات. {وَقُلِ اعْمَلُوا}.
وفي النهاية لا بد للنخبة - على الأقل - من التَّفَكُّرِ، والتَّعَقُّلِ، والتَّذَكُّر، والتَّدَبُّرِ.