السَّعادَةُ أجْمَلُ أمَلٍ في الحَياةِ يُداعِبُ خَيالَ كُلِّ إنْسانٍ، وَقَدْ فَتَّشَ النَّاسُ عَنِ السَّعادَةِ في كُلِّ زَمانٍ وَكُلِّ مَكانٍ، وَمِنْهُمْ من وَجَدَها مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَإنْ كانَ هَؤُلاءِ السُّعَداءُ قِلَّةً في أغْلَبِ الأحْوالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ سُوءُ الظَّنِّ وَغلَبَهُ الهَمُّ؛ فَقَضى حَياتَهُ كُلَّها وَهُوَ يَحْسَبُ أنَّهُ شَقِيٌّ مَحْرومٌ، مَعَ أنَّ السَّعادَةَ كانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفي مَواطِئِ قَدَمَيْهِ وَأمامَ عَيْنِهِ، وَلَكِنَّهُ كانَ مِنَ الغافِلينَ. وَقَدْ دارَ خِلافٌ كَبيرٌ وَنِقاشٌ عَنيفٌ حَوْلَ السَّعادَةِ، وَتَبايَنَ النَّاسُ في تَقْديرِها وَتَعْريفِها تَبايُنًا ظاهِرِيًّا.
وَيَسْتَطيعُ الإنْسانُ إذا تَحَرَّرَ مِنَ الهَوى الجامِحِ وَالخَيالِ الكاذِبِ وَالوهْمِ المُسْرِفِ، وَعَلِمَ أنَّ الحَياةَ لَيْسَتْ خَيْرًا صِرْفًا، وَإنَّما هِيَ مَزيجٌ مِنَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالحَرَكَةِ وَالسُّكونِ، وَالرَّاحَةِ وَالتَّعَبِ، وَالصِّحَّةِ وَالمَرَضِ، وَالقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَبِضِدِّها تَتَمَيَّزُ الأشْياءُ! يَسْتَطيعُ الإنْسانُ إذا عَرَفَ هَذا أنْ يَعْرِفَ طَريقَ السَّعادَةِ، وَأنْ يَسْعَى إلَيْها، وَمِنَ المُمْكِنِ أنْ يَبْلُغَها وَيَتَمَتَّعَ بِها وَخاصَّةً إذا أدْرَكَ بِوُضوحٍ أنَّهُ لا يوجَدُ في الدُّنْيا كائنٌ خاصٌّ مُتَمَيِّزٌ يُسَمَّى «السَّعادَة»؛ فَلا الدُّورُ وَلا القُصورُ وَلا المالُ وَلا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أعْراضِ الحَياةِ بِمُمَثِّلٍ لِلسَّعادَةِ في ذاتِها وَصَميمِ حَقيقَتِها، وَلَكِنَّ الإنْسانَ يَسْتَطيعُ أنْ يُعَرِّفَ السَّعادَةَ بِأنَّها «عَدَمُ الشَّقاءِ» فَإذا أُصيبَ الإنْسانُ بِمَرَضٍ عُضالٍ، وَأَحَسَّ بِشَديدِ وَطْأَتِهِ وثِقَلِ نَزْلَتِهِ، وَأَخَذَ يَتَلَمَّسُ أسْبابَ العِلاجِ وَوَسائلَ الشِّفاءِ، ثُمَّ نَشَطَ مِنْ عِقالِ المَرَضِ، وَاسْتَرَدَّ صِحَّتَهُ وعافِيَتَهُ، ذاقَ لَوْنًا مِنْ ألْوانِ الرَّاحَةِ بَعْدَ التَّعَبِ، والسَّعادَةِ بَعْدَ الشَّقاءِ، وَإذا نَزَلَتْ بِالإنْسان ِ ضائقَةٌ أقْلَقَتْ خاطِرَهُ وَقَلَبَتْ كِيانَهُ، ثُمَّ أخَذَ يُجاهِدُها وَيُغالِبُها حَتَّى تَغَلَّبَ عَلَيْها وَقَهَرَها، وَاسْتَرَدَّ مَكانَتَهُ الطَّبيعِيَّةَ الهادئةَ الَّتي كانَ فيها، فَذَلِكَ أيْضًا لَوْنٌ مِنْ ألْوانِ السَّعادَةِ، وإذا كانَ أمامَ الإنْسانِ هَدَفٌ مِنَ الأهْدافِ يَسْعَى إلَيْهِ، وَيُحاوِلُ بُلوغَهُ؛ لأنَّهُ سَيَجِدُ عِنْدَهُ تَحقيقَ أمْنِيَّتِهِ وَتَصْديقَ رَجائهِ، ثُمَّ بَذَلَ مِنْ وَقْتِهِ وَمالِهِ وَأعْصابِهِ وَعَرَقِهِ وَفِكْرِهِ ما بَذَلَ، وَسَهَرَ اللَّيْلَ الطَّويلَ وأفْنى في العَمَلِ النَّهارَ الثَّقيلَ، ثُمَّ بَلَغَ ذَلِكَ الهَدَفَ؛ أحَسَّ بِراحَةٍ وَطُمَأنينَةٍ، وَبَهْجَةٍ تَشيعُ في جِسْمِهِ وَروحِهِ، فَذَلِكَ أيْضًا نَوْعٌ مِنْ أنْواعِ السَّعادَةِ، وَهَكِذا كُلَّما تَجَنَّبَ الإنْسانُ نازِلَةً مِنَ النَّوازِل، أوْ تَغَلَّبَ على صُعوبَةٍ مِنَ الصُّعوباتِ أوْ قَهَرَ أزْمَةً مِنَ الأزَماتِ، أوْ هَزَمَ بادِرَةً مِنَْوادِرِ الشَّقاءِ، تَحَقَّقَ لَهُ جانِبٌ مِنَ السَّعادَةِ!
وَاعْتِقادي أنَّ السَّعادَةَ أيْضًا تَتَحَقَّقُ بِوُضوحٍ وَجلاءٍ في (أداءِ الواجِبِ) فَإنَّ لِأداءِ الواجِبِ نَشْوَةً حِسِّيَّةً، وَلَذَّةً روحِيَّةً لا يُدْرِكُها إلَّا مَنِ اعْتَنَقَ في الحَياةِ مَبْدَأً وَجاهَدَ مِنْ أجْلِهِ، أوْ آمَنَ بِواجِبٍ مِنَ الواجِباتِ وَأَفْلَحَ في أدائهِ عَلى الوَجْهِ المُرْضي..
حَقيقَةً، قَدْ يُعَرِّضُكَ أداءُ الواجِبِ لِمَتاعِبَ حِسِّيَّةٍ وَمادِيَّةٍ كَثيرَةٍ، وَلَكِنَّكَ تَسْتَهينُ بِها وَأَحْيانًا تَسْتَلِذُّها؛ لِأنَّ هُدوءَ نَفْسِكَ وَطُمْأنينَةَ قَلْبِكَ وَاسْتِقْرارَ رُوحِكَ وَسُمُوَّ عاطِفَتِكَ حينَما تَنْهَضُ بِما اعْتَقَدْتَ أنَّهُ الواجِبُ، يُنْسيكَ كُلَّ هَذِهِ المَتاعِبِ، وَيَنْقِلُكَ إلى رياضِ السَّعادَةِ الغَنَّاءِ؛ فَحَاوِلْ أنْ تَتَخَلَّصَ في حِكْمَةٍ مِنْ هُمومِكَ، وَأَنْ تُؤَدِيَ واجِبَكَ؛ تَكُنْ مِنَ السُّعَداءِ.
** **
- (أحمد الشرباصي)