د. عبدالحق عزوزي
يحاول الكثير من أصحاب العقل والقلم وضع رؤية أكثر توازناً للهجرة في دول أوروبا على اعتبار أن الأمر ينظر إليه كإغناء متبادل في حين يعتبره العديد من الساسة تحدياً، وهذا حسب تعبير الخبيرة العالمية في شئون الهجرة، كاترين دي فندن، يولد نفاقاً دولياً يرمي إلى تخفيض التبادل الاقتصادي وجعله يقتصر على عمليات تحويل أموال المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية وخلق شراكة تشمل المشاريع الصغيرة، في حين أن هناك ضرورة لإرساء مقاربة ماكرو اقتصادية واجتماعية، وعودة المهاجرين إلى الاندماج في الوقت الذي لا يتعلق الأمر بعمليات الترحيل،كما أن هذا النفاق يخفي اختلاف مصالح الدول داخل الفضاء الأورومتوسطي.
وهناك على العموم ثلاثة حلول يمكن تبنيها.. أولاً: ضرورة عدم جعل المهاجرين رهائن لسياسة أمنية وسياسة لمحاربة الإسلاموية تم تبنيها في حوض المتوسط، وعدم الخلط بين الهجرة والإرهاب والمخدرات والجريمة، وذلك بفضل دمقرطة التنقل عبر الحدود لأكبر عدد ممكن؛ وهذا مطلب يلح عليه شباب الضفة الجنوبية الذين يسعون إلى تحقيق حرية التنقل؛ كما تستدعي هذه السياسة إصلاح سياسة التأشيرات لأن التشديد فيها يخلق مظاهر الاحتيال عليها والمتاجرة بالوثائق المزورة. وترصد أموال طائلة لمحاربة الدخول السري لدول البحر الأبيض المتوسط، في حين أن هذا المشكل لا يطال سوى 10 في المائة من الهجرة غير الشرعية التي في أغلبها تنجم عن تمديد دخول شرعي إلى إقامة غير شرعية.
وفي هذا السياق أطلقت العديد من الحكومات مشاورات مع الجمعيات حول بعض المشاريع الجديدة حول الهجرة بما فيها فرنسا التي اقترحت مشروع قانون «لجوء وهجرة» يتوقع أن تكون صعبة إذ إن الكثير من إجراءات المشروع تثير غضب منظمات غير حكومية وتتسبب بانقسام حتى داخل الأغلبية الحاكمة.
ومشروع القانون الجديد يعد من ناحية بزيادة حالات الطرد ومن ناحية أخرى بتحسين حق اللجوء، وتترجم «البراغماتية» في الوعد بزيادة كبيرة في عمليات الترحيل. كما ينص مشروع القانون الذي سيقدم في الأسابيع القادمة لمجلس الوزراء، على رفع مدة الاحتفاظ للتثبت من الحق في الإقامة من 16 إلى 24 ساعة، وتشديد الإقامة الجبرية، وتقليص آجال التقدم بشكاوى لمن ترفض ملفاتهم لطلب اللجوء.
وفي هذا المخاض الذي تعرفه فرنسا حالياً وجل الدول الأوروبية، رفع العديد من المثقفين البارزين سلاح القلم والفكر للتنديد بسياسات الحكام اللاإنساية، واستوقفتني هنا كلمات جان ماري غوستاف لو كليزيو، الحائز على جائزة نوبل للآداب عندما رفع النقاش العام إلى مستوى فلسفي من خلال تنديده بـ»إنكار لا يطاق للإنسانية» و»فرز» بين مهاجرين يفرون من بلدانهم لأسباب سياسية وآخرين يفرون بسبب البؤس. وتساءل «هل الموت جوعا وبسبب الضيق والإهمال، أقل خطورة من الموت تحت ضربات الطغاة؟» مذكراً بأنه هو نفسه كان مهاجراً. وعبر الأديب العالمي عن غضبه تجاه سياسة أصبحت «وحشا بلا قلب» متماهياً في ذلك مع شخصيات يسارية كانت قد اعتبرت أن الإجراءات المتخذة من الحكومة «تتعارض مع تلك الروح الفرنسية القائمة على جعل بلادنا أرض وفادة». ورد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هذه الانتقادات مباشرة من روما. واعتبر أنه «هناك الكثير من الخلط لدى المثقفين» ويجب الحذر من «المشاعر الطيبة الخاطئة». قبل أن يتابع «فرنسا ليست منغلقة» وهي تواجه «موجات هجرة (...) غير مسبوقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية».. مذكراً بأن عدداً قياسياً بلغ مئة ألف طلب لجوء قدم في فرنسا العام الماضي. وتشير الأرقام الرسمية إلى أن ثلث مقدمي هذه الطلبات حصلوا على صفة لاجئ.
والذي نلحظه أيضاً في ختام هاته المقالة هو أن قضية الهجرة تشكل أكبر عقبة ليس فقط في قياس باروميتر شعبوية الحكام، ولكن أيضاً في تشكيل الحكومات كما هو شأن ألمانيا، حيث استسلمت المستشارة أنجيلا ميركل، لضغوط حلفائها المحافظين، ووافقت على الحدِّ من عدد اللاجئين الذين تستقبلهم ألمانيا إلى 200 ألف لاجئ سنوياً. ولطالما ضَغَطَ حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري، وهو الحزب الشقيق لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه ميركل، من أجل وضعِ سقفٍ لعدد اللاجئين، لكن ميركل قاوَمَت بفشل هذا الضغط، وأصبحت بذلك مسألة الهجرة وكيفية التعامل معها من أكبر العوامل المحددة لمستقبل الحكومات والأحزاب في أوروبا.