الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يشير العلماء على أن هناك انحرافاً فكرياً عميق عن المفاهيم الصحيحة للعقيدة، مما يؤكد أن قضية التصحيح تحتاج منا إلى مراجعة نقدية لمكونات العقل العربي والإسلامي المعاصر التي تكشف لنا عن أوجه من الخلل متعددة الجوانب أصابت المجتمعات الإسلامية بالركود والجمود مما انعكس أثره على عقلية الأمة فأصابها بشيء من السكون إلى الواقع والرضا به.
ومن هنا تتأكد مسؤولية المختصين في العقيدة الإسلامية لتصحيح المفاهيم المغلوطة التي تمس أصول الدين وثوابته، «الجزيرة» التفت مع عدد من المختصين.. وكانت رؤاهم التالية:
العقول متفاوتة
يقول الدكتور أحمد بن هزاع الرضيمان أستاذ العقيدة المشارك ورئيس الأمن الفكري بجامعة حائل: إن العقيدة الصحيحة أمانٌ من الانحرافات بجميع صورها وأشكالها، وما ضل قومٌ إلا بسبب انحرافهم عن العقيدة الصحيحة إما إلى الغلو في الدين، أو الانفلات عنه.
وقد قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيهما ظفر.
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جداً الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وأمر به عباده، كما قال الله تعالى: (وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون)، فاتباع صراط الله هو وصية الله لخلقه، ويكون اتباع صراط الله بالتمسك بكتاب الله تعالى ففيه الهدى والشفاء والنور، ويهدي للتي هي أقوم كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، من تمسك به نجا، ومن اعتصم به فقد هُدي إلى صراط مستقيم، وأما من قدم عقله وفهمه وذوقه ووجده ورغباته على كتاب الله وسنة رسوله فقد ضلّ ضلالا بعيدا، ووقع في مستنقع الانحرافات الفكرية والسلوكية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، والعقل يحب أن يكون تابعاً للنقل، وليس متقدما عليه، وإذا كان العقل سليماً صريحاً فإنه لا يعارض النقل الصحيح، ولكن العقل لا يستغني عن النقل، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو أكمل الناس عقلاً، ولكنه قبل الوحي كان ضالاً عن الهدى والإيمان، كما قال تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا)، فإذا كان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وهو أكمل الناس عقلاً لم تحصل له الهداية والنور إلا بالوحي، فغيره من باب أولى.
ولهذا كان من أبرز الانحرافات الفكرية والعقدية تقديم العقل على النقل، ومعلومٌ أن العقول متفاوتة فلكلٍّ عقل، بل الإنسان يجد التفاوت في نفسه، ربما يقول هذا القول يؤيده العقل، ثم في آخر النهار يتراجع ويقول بل العقل يدل على تقيضه، والمقصود: أنه ليس هناك عقل موحد يُرجع إليه عند الاختلاف، وإذا كان الأمر كذلك، فبعقل مَنْ يوزن كلام الله ورسوله؟
والعاقل حقيقة هو من يجعل عقله تابعاً لما جاء به الوحي، فإن قدم عقله وحرّف النص الشرعي لأجل أن يتوافق مع عقله، فهو منحرف عقدياً، وإن زعم أنه عقلاني، وعامة المنحرفين دخل عليهم الداخل من هذا الباب، وهو تقديمهم لعقولهم وأهوائهم ووجدهم ومناماتهم على الوحي.
وعادة أهل الانحرافات الفكرية والعقدية أنهم يسلكون ثلاثة مسالك لتمرير باطلهم، الأول: أنهم يصفون باطلهم بعبارات جاذبة، كوصف المعتزلة لنفي الصفات (بالتوحيد) والخروج على الحكام (بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وكوصف بعض أهل زماننا: الانفلات عن الشريعة (بالتنوير)، يفعلون ذلك ليسوقوا باطلهم بزخارف القول.
الثاني: وصف المعنى الحق بلفظ منفِّر، كوصف أهل البدع لمن يثبت الصفات (بالمجسمة)، ووصف الرافضة والصوفية لمن حقق التوحيد (بالوهابية) ووصف الإخوان المسلمين ومن تبعهم من الليبراليين لمن يرى الجماعة والسمع والطاعة لأئمة المسلمين (بالجامية)، يفعلون ذلك لينفر الناس عن الحق الذي معهم.
الثالث: نسب قولهم المنحرف لإمام له في الإسلام قدم صدق، وقبول، يفعلون ذلك ليمرروا من خلاله باطلهم، وإن كانوا ضد منهجه.
دراسة العقيدة
ويؤكد دكتور الرضيمان أن الواجب على أهل العلم أن يدعوا إلى الله على بصيرة، وأن يبينوا ويدرسوا العقيدة الصحيحة، فمعرفتها والعمل بها إبطال لكل انحراف لأنها حق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ومن المهم الحكمة في بيان الحق، فإن تفكيك خطابات أهل الأهواء خير من مصادمتها، لأنها ليست على شيء، فإذا جاء الحق زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً، ومن حكمة الله أن قدر وجود الحق والباطل، ليتميز الخبيث من الطيب، ويبلوا الناس بعضهم ببعض، كما قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) وقال تعالى (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض).
ووجود الانحراف لا يسوغ للإنسان التهييج والتشاؤم والنظرة السوداوية، بل عليه أن يبين الحق، ويرد الباطل بحكمة على طريقة السلف، فليس هو مطالب بهداية الناس، وإنما مطالب فقط بالبلاغ، وقد قال تعالى: (مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغ) وليحذر التهويل والبكاء والعويل إذا رأى انحرافاً أو منكراً وإنما عليه الصبر وبيان الحق والتحذير من الباطل، ولا يقول هلك الناس، ففي الحديث (من قال هلك الناس فهو أهلكهم)، يقول ابن تيمية رحمه الله: «وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا؛ بل هو مأمور بالصبر والتوكلّ والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنّ العاقبة للتقوى».
وعليه أن يقبل الحق ممن جاء به وإن كان فيها انتقاص لقوله، ويرد الباطل وإن كان فيه تعظيم له، ولا يكون كطلاب الترؤس على الناس الذين ترضيهم الكلمة التي فيها تعظيمهم وإن كانت باطلاً، وتغضبهم الكلمة التي فيها ذم لقولهم وإن كانت حقاً.
مسؤولية العلماء
ويبين الدكتور رياض بن حمد العُمري -الأستاذ المساعد بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أن الله تعالى قد وضع مسؤولية عظمى على العلماء بحكم وعيهم بمضامين الدين وفهمهم لأحكام الشريعة ومقاصدها، واطلاعهم على نصوص الكتاب والسنة، ومعرفتهم بتفسير العلماء لها، وقدرتهم على توجيهها والاستنباط منها، وحل معضلات الحياة العصرية في ضوئها، لهذا كله تعظم مسؤوليتهم كلما اشتدت الحاجة إليهم، وهي تشتد وتقوى بانحسار الوعي الإسلامي العام في أي مجتمع، وضعف القيم الدينية والأخلاق المبنية عليها.
ولاشك أن أولى الجوانب الدينية بالعناية ما يتعلق بجانب العقيدة فهي أصل الدين ومدار الفلاح فيه، ولذا يعظم دور العلماء المتخصصين في هذا الجانب في توجيه الوعي في المجتمعات المسلمة وحل المشكلات والظواهر العقدية المخالفة في هذا العصر وسنذكر في هذه العجالة شيئاً من تلك الأدوار المهمة التي يحسن التنبه لها من قبل العلماء وتعظم الحاجة لطرقها عند الناس:
1. المساهمة في تعزيز المنهج العقدي السليم في المجتمع. ويكون ذلك في التأكيد على أهمية التمسك بنصوص الشرع والتسليم لأحكامه وفق المنهج العقدي الصحيح لأهل السنة والجماعة فهذا كفيل بتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة التي قد تحصل لبعض الناس. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن أن الأمة ستفترق إلى فرق ضالة كثيرة وبيّن أن هناك فرقة ناجية وطائفة منصورة على الحق من أعظم صفات أصحابها أنهم يتمسكون بما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من اتباع للحق على هدى من الكتاب والسنة. وقد فتح في هذا العصر أبواب كثيرة من الشبهات والشهوات التي تقدح في أصول الدين وفروعه ولا نجاة منها إلا بالتمسك بهذين المصدرين كما قال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه».
2. توعية الناس إلى خطر الأمور المحدثة المبتدعة في مسائل الدين مما لم يرد عليه دليل شرعي. وهذه البدع منها ما هي بدع اعتقادية كالبدع المتعلقة بالشرك والتوسل والسحر والتنجيم ونحو ذلك وهي بدع قديمة معروفة لكن قد تعرض بصور معاصرة وجديدة وخصوصاً في مسائل الاستشفاء وتطوير الذات وبعض قوانين الطاقة ونحوها. والنوع الثاني بدع متعلقة بالعمل والعبادة، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن البدع جميعاً وبيّن أنها كلها ضلالة.
3. معالجة القضايا الفكرية المعاصرة وتقديم الحلول لمشكلاتها. ففي كل زمن تظهر قضايا في واقع المجتمعات المسلمة تحتاج إلى بيان الرؤية العقدية الإسلامية الصحيحة فيها. فمثلاً في وقتنا الحاضر ظهرت قضايا الإرهاب والتطرف والغلو والتشدد عند بعض الجماعات المعاصرة المنتسبة إلى الإسلام والتي أخذت على عاتقها تكفير المسلمين واستباحة أموالهم ودمائهم والإفساد في الأرض كتنظيمات القاعدة وداعش ونحوها، وهناك جماعات أخرى تبنت هذا الجانب نظرياً في بعض مؤلفاتها ومقولات أعلامها كجماعة الإخوان المسلمين ونحوها وهؤلاء قد يكون خطرهم أعظم من جهة إيجاد المسوغ لمن يسلك الجانب العملي من التنظيمات المتطرفة.
وفي المقابل، فهناك أيضاً قضايا تطرحها بعض المذاهب الفكرية تدعو من خلالها إلى نشر الانحلال والانسلاخ من الدين وصولاً إلى الإلحاد والعياذ بالله، فهذه المذاهب الفكرية تحتاج إلى ردود ومناقشات وحوارات يقدمها المتخصصون في جوانب العقيدة والمذاهب المعاصرة لتوعية المتأثرين بها وهم غالباً من فئة الشباب وبيان خطر ما تتضمنه هذه المذاهب من أفكار تدمر عقيدتهم وثوابت بلادهم ومجتمعاتهم المسلمة.
4. إظهار جوانب الوسطية والتسامح العقدي في الإسلام تجاه الآخرين وتصحيح المفاهيم المغلوطة تجاه ذلك. فجوانب التسامح العقدي في الإسلام خير من يعرضها على الوجه الصحيح هم أولئك الذين درسوا العقيدة الإسلامية ودرسوا العقائد الأخرى فكان باستطاعتهم عقد المقارنة المنصفة بين الطرفين، وإظهار الجوانب المنصفة في تسامح الإسلام ديناً وعقيدة وتعاملاً مع الآخرين وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي تشكك في ذلك.
المسؤولية العظمى
وتوضح الدكتورة منيفة الشمري -الأستاذ المساعد في جامعة حائل- أن كثيراً ما ينخدع بعض الناس ببعض المفاهيم العقدية الخاطئة التي تمس أصول الدين وثوابته؛ مما يؤثر سلبًا على اتجاهاتهم في الفكر والسلوك، مما يجعل تصحيحها أمراً عسيراً يحتاج إلى تضافر وتكثيف جهود العديد من مؤسسات المجتمع بدءاً بالأسرة، ثم المدرسة ووسائل الإعلام، وعلماء الأمة الإسلامية، وسوف نسلّط الضوء هنا على دور المتخصصين في العقيدة الإسلامية في تصحيح هذه المفاهيم المغلوطة، حيث تقع على عاتقهم هذه المسؤولية العظمى أكبر من غيرهم؛ لكونهم من أهل الاختصاص والخبرة في ذلك، وفيما يلي بيان لأهم ما يجب عليهم:
أولاً: إنشاء هيئة فكرية متخصصة لمكافحة الفكر العقدي المنحرف، وأن توضع لها استراتيجية تلزم كل جهة رسمية أو أهلية بتنفيذ برامجها. وتبحث هذه الهيئة في الأسباب التي ساعدت على انتشار الفكر المنحرف والمتطرف، وتطوره، وطرق علاجه.
ثانيًا: فتح أبوابهم للشباب وعامة المجتمع بتخصيص وقت لاستقبالهم يوميًّا أو أسبوعيًّا يستطيعون فيه التحاور معهم فيما يطرأ عليهم من شبهات وأفكار هدامة، وإرشادهم إلى الحق؛ فالأفكار هي بداية السلوك.
ثالثًا: عقد الندوات والمؤتمرات التي تدعو إلى الوسطية والبعد عن الانحراف الفكري والعقدي. وبيان خطورته على الفرد والأمة الإسلامية، والتحذير من أصحاب الأفكار المنحرفة، وطرقهم في قلب المفاهيم وتشويه الحقائق، وبيان خطورة التجرؤ على أحكام الدين، والحكم على الآخرين، كخطورة التكفير والتبديع، والتفسيق والتحريم، والخوض في مسائل الدين دون معرفة لمراتب الأحكام؛ مما يؤدي إلى استباحة دماء المسلمين وأموالهم، والانشغال بالصراعات الدينية والفكرية عن أمور الحياة الهامة.
رابعًا: تكثيف الجهود في تحصين المسلمين ضد الفكر الغربي بالمقالة النافذة، والرؤية الحكيمة وإسقاط (عقدة الأجنبي)، بحيث يصبح في مقدور أبناء الأمة الإسلامية ألا تنظر إليه نظرة المغلوب إلى الغالب، والاعتزاز بدينها وثقافتها، وتعظيم الثقة بمصادر الدين الإسلامي، وأنهم أمة قادرة على التقدم والتطور، والانتفاع بكل جديد لا يتعارض مع قيمها الإسلامية، وبيان وسائل حملات التغريب التي يقودها الاستعمار الغربي الحديث عبر منظمات وصحف مشبوهة، تصدر في بعض أنحاء العالم العربي.
خامسًا: الاهتمام بدور المؤسسات الاجتماعية (مثل: المدارس، والمساجد، والأندية الاجتماعية) ببيان التفعيل السليم لذلك، ومساندتها عن طريق المشاركة بالبرامج التوعوية، وإضافة مناهج جديدة للمدارس تحصن الشباب من الانحراف الفكري، والعقدي والجريمة.
سادسًا: تكثيف البرامج التوعوية للأفراد عبر وسائل الإعلام، واستمرارية تدفقها وبالأخص الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي ساعدت بشكل كبير في نشر الأيديولوجيات المتطرفة، من خلال بروز فقه جديد وهو ما يسمى (بفقه الإنترنت) المشحون بالانفعال والكراهية، والتحريض على العنف.
سابعًا: توعية الأسرة بالتنشئة الاجتماعية السليمة للأبناء، وعدم تربيتهم على الطاعة العمياء، وتعويدهم على النقاش الهادف؛ حتى لا يكونوا وسيلة لأصحاب الأفكار الضالة والمنحرفة لتحقيق أهدافهم.
ثامنًا: المشاركة في البرامج التي تعزز حب الوطن عند أبناء الأمة الإسلامية، وبيان المفهوم الخاطئ للوطنية؛ حيث إن أصحاب الفكر المنحرف لديهم شبهات جعلت كتاباتهم وفتاويهم مليئة بتشويه هذا المفهوم، ومن يؤمن به.