د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تتردَّد في تراثنا الأدبي بعض المصطلحات النقدية العامة التي تفتقد إلى الدقة في التحديد، إذ يصعب على الباحث أن يقف على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لها، غير أنه يمكن له تصور مفهومها عموماً في بعض النماذج التراثية التي ربما ساعدته على إدراك شيء من دلالتها العامة، وأغلب تلك المصطلحات تتصل بالمعنى الشعري الذي يصفه النقاد بالعديد من الأوصاف العامة التي لا تستقر على مفهوم محدد.
ومن تلك المصطلحات الشرف والضعة، فيقولون: هذا معنى شريف، وذاك معنى وضيع، وإذا فتَّشت عن أسباب محددة وتعليلات دقيقة لهذه الأحكام أعياك الأمر، ولعل بشر بن المعتمر من أوائل من تنبه لهذه الإشكالية، فحاول أن يتلمَّس بعض أسباب الشرف بقوله: «والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتَّضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال».
أما ابن قتيبة فقد رأى أن هذا الوصف قد يرتبط بالقائل أيضاً، إذ يقول عن شعر عبدالله بن طاهر: «وهذا الشعر شريفٌ بنفسه وبصاحبه»، ويقول عن عمرو بن سنان: «وكان عمروٌ شريفاً شاعراً»، كما كان يذكر أنَّ من أسباب حفظ الشعر واختياره: نبلُ قائله، مستشهداً ببيتين للخليفة المهدي.
ولأنَّ البلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، يؤكد الجاحظ أنَّ بعض المقامات تتطلَّب ذلك المعنى الوضيع السخيف، الذي ربما كان تأثيره في ذلك المقام أكثر من تأثير الشعر الجزل الشريف، يقول: «وقد يُحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع أكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني»، بل إنه يعقد باباً خاصاً بالسخيف من الشعر، بحجة أنَّ الحق يثقل، ولا يخفُّ إلا ببعض الباطل!
وعلى كل حال فقد أولى العرب هذه المسألة أهمية خاصة، وجعلوا الشرف والضعة في المعنى مقياساً للمفاضلة بين الشعراء، ولهذا يقول الجمحي عن سبب تقديم العرب لزهير: «من قدَّم زهيراً احتج بأنه كان أحسنهم شعراً، وأبعدهم عن سخف»، بينما نرى الأصمعي يعرض أبياتاً حسنة للحطيئة ويقول عنها: «أفسد هذا الشعرَ الحسنَ بهجاء الناس وكثرة الطمع»، وقد يؤدي إكثار الشاعر للمعاني الوضيعة إلى أن يكون مدعاةً للسخرية والاستنقاص، فقد أُنشد الوليد بن عبدالملك شيئاً من شعر الشمَّاخ في صفة الحمير فقال: «ما أوصفه لها! إني لأحسب أنَّ أحد أبويه كان حماراً!!».
وفي كتب التراث نماذج تطبيقية متعددة تشير إلى هذه القضية بطريق غير مباشر، من خلال مواقف أصدر فيها النقاد على نصوصٍ شعرية أحكاماً تقارن بين الشريف والوضيع، لعل من أبرزها ما روي عن سكينة بنت الحسين أنها قالت لكثير عزة: «يا ابن أبي جمعة، أخبرني عن قولك في عزَّة:
وما روضةٌ بالحَزْن طيَّبةُ الث
رى يمُّ الندى جَثْجاثُها وعرارُها
بأطيب من أردان عزَّة مُوهناً
وقد أُوقِدتْ بالمَنْدَلِ الرطبِ نارُها
ويحك! وهل على الأرض زنجيةٌ منتنة الإبطين توقِد بالمندل الرطب نارَها إلا طاب ريحها؟ ألا قلتَ كما قال عمك امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئتُ طارقاً
وجدتُ بها طيباً وإن لم تَطَيَّبِ
وقد عدَّ النقاد شرف المعنى من أهم الركائز التي يتكئ عليها مفهوم عمود الشعر، وقرنوه بالصحة، فشرف المعنى في نظرهم يُقصد به أحاسن المعاني المستفادة من الكلام، يفهمها السامع دون عناء، ومطابقة المعنى لمقتضى الحال، وللأغراض التي يتحدث بها المتكلم بصدق، فلكل مقام مقال، ومعيار المعنى الصحيح هو العقل الصحيح والفهم الثاقب، ويذكر ابن الأثير أنَّ المراد من الشعر إنما هو إيراد المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجدتَ ذلك فكلُّ مكانِ خيَّمتَ فهو بابل»، وذكر بعضهم أنه يمكن فهم شرف المعنى من خلال ثلاثة محاور: استواء الصنعة الشعرية من وجهة النظر الفنية، وابتكار المعاني، والبعد النفعي للشرف.
ومهما يكن من أمر فإنه مهما نظرتَ في أمثال هذه المصطلحات في تراثنا الأدبي فلن تتمكن من تحديدٍ دقيقٍ لها، وكلما قرأتَ قولاً لأحد النقاد عنها، أو صادفتَ نموذجاً تطبيقياً يتصل بها، ستجد مفاهيم مختلفة، وتتفاجأ بإضافات جديدة، ومع هذا فأحسب أنَّ أمثال هذه المصطلحات تحتاج إلى تتبع دقيق ودراسة تأملية مستفيضة عبر العصور، حتى يمكن أن نصل -على الأقل- إلى تصور واضح ومفهوم جلي لها، خاصة أنها تتردَّد كثيراً في كتب التراث، وتستخدم مراراً في الأحكام النقدية على النصوص الشعرية.