.د.عبدالله بن محمد الشعلان
التجربة المصرية:
تعد مصر بتاريخها التليد وتراثها الثري وإرثها الباقي وحضارتها العريقة لهي أم التقنيات التي لم يكن العالم يعرف عنها أو يكتنه سرها إلى وقتنا هذا. إن مصر حضارة قديمة في الشمال الشرقي لإفريقيا، تركزت على ضفاف نهر النيل فيما يُعرف الآن بجمهورية مصر العربية. وقد بدأت الحضارة المصرية في نحو العام 3150 ق.م، ثم تطورت بعد ذلك على مدى الألفيات الثلاث اللاحقة. وقد استمد نجاح الحضارة المصرية القديمة في القدرة على التكيف مع ظروف وادي نهر النيل؛ إذ توافرت كل مقومات الزراعة من تربة خصبة ومياه جارية ومناخ معتدل.. ولقد تضمنت إنجازات قدماء المصريين استغلال المحاجر وتقنيات البناء التي سهلت بناء الأهرامات الضخمة والمعابد والمسلات، إضافة إلى نظام رياضيات عملي وفعّال في الطب وأنظمة للري وتقنيات الإنتاج الزراعي. وأول ما عرف من السفن والقيشاني المصري وتقنية الرسم على الزجاج. كما كان للمصريين القدماء الفضل في اكتشاف إمكانية صناعة مادة للكتابة «الورق» باستخدام نبات معين «البردي»، الذي كان ينمو بوفرة في دلتا النيل. ومنذ أن تمكن المصريون من هذا الاختراع الفذ أصبح نبات البردي هو المادة الأولى والمفضلة للكتابة. ولقد تركت مصر القديمة إرثاً دائماً للإنسانية جمعاء، وأخذ منها اليونانيون القدماء الكثير، وتلاهم الرومان. ونُسخت وقُلدت الحضارة والفن والعمارة المصرية على نطاق واسع، ونُقلت آثارها إلى بقاع بعيدة من العالم، كما ألهمت الآثار والأطلال والرموز (كليوباترا، المعابد، أبو الهول) خيال الشعراء والفنانين والرسامين والكتاب لقرون عدة. وأدت اكتشافات في مطلع العصر الحديث عن آثار وحفريات مصرية إلى أبحاث علمية للحضارة المصرية، تجلت في علم أُطلق عليه علم «المصريات»، ومزيد من التقدير لتراثها الثقافي في مصر والعالم. كما أن وادي النيل - وهو هبة الله لمصر - مكّنها من غرس وإنبات المحاصيل الزراعية، وبخاصة محصول القطن الذي أتاح لمصر وهيأها إلى أن تكون الرائدة في زراعته وتصنيعه وتسويقه.
مما سبق يدل دلالة واضحة على أن مصر عرفت التقنية قبل معرفتها بالعلوم الأساسية؛ بدليل أن المصريين بنوا الأهرامات دون أن يعرفوا قانون «الروافع»، كما أن التحنيط (حفظ أجساد ملوك الفراعنة) ظل سرًّا من أسرار الفراعنة، حيّر علماء الكيمياء والطب والآثار، الذي يصفه البعض أيضًا بأنه كان فنًا رفيع المستوى، مارسه الطب المصري القديم.
وإذا حصرنا حديثنا هنا عن مسيرة التقدم التقني في مصر في عصرنا الحديث فإن من المعلوم أن التقنية العلمية قد ترسخت ونمت وتطورت في مصر بفضل تقدمها العلمي وتطورها المعرفي؛ إذ حرصت مصر منذ حكم محمد علي على الارتقاء بالتربية والتعليم، والتعليم العالي بوجه خاص؛ لتوفير الكوادر القادرة على قيادة قوافل التطور العلمي والثقافي والنمو المعرفي والتقني؛ إذ بدأت بإيفاد البعثات إلى أوروبا تمهيدًا لإنشاء مدارس عليا متخصصة في مجالات الطب والهندسة. وقد تُوج هذا الجهد في بداية القرن العشرين بافتتاح جامعة القاهرة التي تعتبر أول جامعة تحتضن كليات علمية في الوطن العربي؛ إذ تخرج فيها العديد من العلماء من مصر ومن مختلف الدول العربية والإسلامية. وتلا ذلك إنشاء العديد من الجامعات المصرية المرموقة التي يربو عددها في وقتنا الحاضر على أكثر من 26 جامعة حكومية، إضافة إلى العديد من الجامعات الخاصة؛ مما شهدت مصر معه قفزات كبرى في مجال نقل وتوطين التقنيات الحديثة في المجالات كافة؛ إذ تم إنشاء وزارة متخصصة للبحث العلمي بجانب وزارة التعليم العالي، كما تم إنشاء مراكز بحوث متخصصة في مجالات الطب والهندسة والزراعة، أخذت على عاتقها الاهتمام بالأبحاث والدراسات والاكتشافات التي قادت لإنجازات علمية وتقنيات مشهودة. وعلى صعيد آخر تم تنفيذ برامج متقدمة لإعداد أجيال من الخريجين من المعاهد العليا المتخصصة في التقنيات الحديثة في الكهرباء والميكانيكا والزراعة والطب والتمريض وخلافه. كذلك تم إنشاء برامج تعليمية صناعية متخصصة للمرحلة قبل الجامعية (5 سنوات بعد المرحلة الإعدادية)؛ لإعداد كوادر فنية قادرة على تلبية احتياجات النمو التقني والصناعي، إضافة إلى أنه تم الاهتمام بإنشاء مصانع عدة في مختلف المجالات، يُذكر منها - على سبيل المثال - مصانع الحديد والصلب ومصانع الكيماويات والأسمدة ومصانع الأدوية ومصانع الإلكترونيات.. كما تم الاهتمام بدخول تقنيات توليد الطاقة الكهربائية بإنشاء أول مفاعل نووي بأنشاص في العام 1964. من جانب آخر، شرع المعهد القومي للبحوث (أبرز مؤسسية علمية وبحثية في مصر) بتقديم برامج لتشجيع المخترعين والمبتكرين لتحويل اكتشافاتهم وإبداعاتهم إلى اقتصاد معرفي. وكان آخر مشروع تبناه المعهد هو تأسيس الحاضنة الافتراضية للإبداع والابتكارات العربية بهدف تسويقها، وهي تتكون من محاور عدة، منها محور تسويق إنتاج العلماء العب، وتسويق إنتاج الشركات المبنية على البحث العلمي، ومحور لحل مشكلات الصناعة وتطوير التقنية في الوطن العربي. كما سيطلق المعهد أيضا برنامجًا خاصًّا لتحويل نتاجات البحث العلمي في مصر إلى اقتصاد، يستهدف توفير فرص العمل، وإحداث تنمية حقيقية، وتحسين مستوى المعيشة في المجتمع المصري.
وقد كان لشركة بنها للإلكترونيات دور رائد في توطين تقنيات الإلكترونيات على مستوى تصنيع المكونات الإلكترونية، مثل الصمامات الثنائية (الترانسيستورز) في أوائل الستينيات. والجدير بالذكر أنه في تلك الفترة كان يتم تدريب المهندسين والفنيين من دولة كوريا الجنوبية على تقنيات تصنيع أجهزة الراديو والتليفزيون في مصنع بنها للإلكترونيات.
وعلى الصعيد العسكري قام الجيش المصري بإنشاء كلية عسكرية متخصصة في مجال الهندسة العسكرية، كما قام بإنشاء مصانع حربية عدة لإمداد الجيش بقطع الغيار اللازمة للمعدات العسكرية، وتطوير منظومات لأسلحة متطورة من طائرات قتالية وصواريخ موجهة ومركبات ومدرعات وخلافه.
وفي عام 1979 تم إنشاء الهيئة العربية للتصنيع بتمويل من دول عربية، على رأسها المملكة العربية السعودية؛ من أجل إعادة مسار نقل وتوطين التقنية في مصر؛ إذ تم إنشاء مصانع عدة تحت مظلة الهيئة العربية للتصنيع، تقوم بتجميع منتجات عالمية، مثل مصنع الإلكترونيات ومصنع المركبات، كذلك مصنع للمعدات والأجهزة الكهربائية، مثل السخانات والغسالات والثلاجات والمكيفات. ولقد اتجهت مصر في الآونة الأخيرة إلى الصناعات التجميعية، مع إضافة نسبة تصنيع محلي. وقد يعتبر هذا من الوسائل الجيدة، بيد أنها قد تكون بطيئة نسبيًّا في نقل التقنية نظرًا لتحكم الشريك (الشركة الأم صاحبة العلامة التجارية) في نسبة التصنيع المحلي ونوعية المنتج المحلي من حيث احتوائه على تقنيات متقدمة، مثل الأجزاء الإلكترونية، وعلى وجه الخصوص التي تحتوي على أجزاء قابلة للبرمجة، أو مركبات تحتوي على سوائل خاصة وعناصر دقيقة؛ إذ يصر الشريك على احتكار هذه الأجزاء والمركبات والعناصر ذات السرية والخصوصية لنفسه.