د.ثريا العريض
خارج نطاق ضعف اللغة وتخبط التعبير والانحراف عن القيم والشيم المتوارثة, المتابع لمحتوى حواراتنا المجتمعية يجد أن غالبية من يصنفون أنفسهم مثقفين يؤطرونها بالتركيز على قضايا بعينها متخيرة فرديا ومتقبلة فئويا كي تحصل على التأييد والتصفيق اللازم المطلوب لاستمرار المشاركة والمتابعة والظهور والتنفيس وممارسة الخطابة المحملة على ظهر الوطنية. قد تكون مواقف سياسية أو حقوقية أو أدبية تعبيرية أو حتى دينية ومذهبية. وتفضيل قضية على أخرى تمليه الظروف السائدة آنيا. ولكن بعضهم يتحجر متشبثا بقضية تعود لأزمنة اندثرت. في الخمسينات برزت المطالبة بالتحرر من سيطرة «المستعمر» ومن يواليه, وفي الستينات اكتشف المثقفون العرب اليسار والقومية والبعثية واستجابوا لبريق شعاراتها, وفي السبعينات جاءت الثورات الدينية والمذهبية, وفي الثمانينات تصاعدت الصحوة وفي التسعينات أغرقنا الغلو والتطرف بمعارك الحلال والتحريم. وفي العقد الأول من القرن الحالي جاءت القاعدة وخلايا الإرهاب وانتهينا بداعش المجهول الأبوة والإثنية والهدف.
الأوضاع اليوم تغيرت كثيرا في طقس الانفتاح رسميا, وتراجَع المغالون إلى تعديل المواقف, ومظهر الوسطية أو الالتصاق بجدار الصمت للسلامة من المحاسبة. وتعالت طلبات الحقوقيين ومساواة الفئات. القضايا الآن تحمل أولوية التعويض والتوعية لأجيال شبابية حرمت من تذوق حياة طبيعية لمن ولدوا في حقبة الثمانينات حتى مرحلة إعادة الابتعاث للدراسة بالخارج.
على هذا؛ قضايانا الحيوية المهمة اليوم مثل قضايانا السائدة في العقود السابقة, ليست كلها سياسية كما يظن البعض, أو أدبية كما يرى البعض الآخر, ولا هي كلها جدل مطبوخ حول هويتنا وطنية أو مذهبية, ولا مصداقية الفتاوى, ولا علاقات عولمية ولا قومية عربية ولا خليجية ولا محلية خالصة. هي خليط من كل هذه الروافد تصب في تكوين معرفة الفرد وعلمه ورأيه، وبالتالي خياراته لانتمائه الفكري قبل أي انتماء آخر من حيث فحوى وأسلوب حواره وتعامله مع الآخر. وأقدم وأهم القضايا القائمة هي قضية الأمن الفكري. وما زال الأمن؛ أمن الإنسان وأمن الوطن كوحدة سياسية هو نقطة الارتكاز.
عالمياً, أينما أضحت التعددية سمة الثقافة المجتمعية الشائعة, وسائل الإعلام تركز عامة على الجانب الإخباري -مع اختلاف التمحور السياسي- وتترك مسألة تذوق الأدب والفن وتخير تفاصيل الحياة الشخصية خيارا شخصيا. في أحادية الرأي يتمسك الإعلام الرسمي بدور المسؤول عن تفاصيل الأخبار, ولكن تظل مصداقيته مجروحة ومشكوكاً فيها، وما ينقله من تفاصيل أو يخفيه يجعل الناس يرونه مصدراً غير موثوق به فيظل المتلقي يشك بما ينقله. ويظل المثقف المحلي يفضل مصادر الإعلام الأجنبية.
وقد فجع العرب بافتضاح قناة الجزيرة. ويظل التعطش لمؤسسة إعلامية عربية تتمتع بالمصداقية ومواكبة الحدث محليا وعالميا لتملأ فراغ المعلومة.
الأمن برأيي يبنى على توازن يؤصل قدرة التفكير المنطقي وحس الانتماء. والعبث بالأمن الفكري أنجح وسائل زعزعة الأمن الفردي والوطني لتسببه في اهتراء حس الانتماء. ودعامات الأمن قدرة اتضاح الرؤية متأسسة أولا في نظام تعليمي يشجع التفكير وبناء قدرة الذات للإضافة خارج محتوى الموروث التراكمي؛ ثم في بناء درع إعلامي موثوق بمحتواه يحمي من اهتراء الانتماء.
وللصاخبين في استعراض تقصير الوطن دون أن يتبينوا حقيقة مشاعرهم الملتبسة أهمس برسالة بسيطة: الإخلاص للوطن وقت الشدة يتطلب أن ندرس نقاط ضعفه لندعمه بصدق ونحميه ونبنيه, لا أن ننتقده بصخب غاضب.