د.فوزية أبو خالد
لا بد من المصارحة بأنني وإن لم أشعر بالتوجس وأنا أتخير موضوعاً لكتابة مقال هذا الأسبوع بما أن مكتب رئيس التحرير قد أبلغني بعدم إجازة مقالي الأسبوع الماضي بسبب موضوعه. فمع أن موضوعه كان موضوع الساعة ولا يزال متأججاً على وسائل الاتصال ومع أنني تناولت ذلك الموضوع/أزمة الصحافة من خلال علاقتها بنقطتين محددتين، النقطة الأولى كانت تربطها بالبعد العالمي لأزمة الصحف الورقية نتيجة الثورة التقنية الراديكالية على أوعية النشر التقليدية للصحف، والنقطة الثانية كانت تربطها بالبيئة السعودية وإطارها الاجتماعي والسياسي والإداري في علاقتها بحرية الكلمة وفي تعالق السلطات بين الرسمي وبين المدني باعتبار ما تمثِّله الصحافة كسلطة رابعة في المجتمعات الحديثة في موازنتها لما يُعرف في الدولة العصرية بالسلطة التنفيذية ممثلةً بالحكومة والسلطة التشريعية ممثلةً بالبرلمانات والسلطة القضائية، فإن ذلك لم يشفع لي من منع المقال.
ولهذا فمصدر توجسي هو الخيفة من التراجع على مستوى كتابة الرأي تحديداً عن سؤال «الكتاب السعوديين العتيد المعتاد» وهو سؤال كيف نكتب لسؤال أشد أولية وهو سؤال ماذا نكتب. فمن خلال تجربة طويلة في كتابة الرأي بالصحف وتجربة أطول في متابعة ما يكتب بالصحف السعودية وخارجها أستطيع أن أقول بما يشبه الشهادة في حق سقف الصحافة السعودية أنه سقف كان يتذبذب بحسب عدد من العوامل لا تقتصر على العامل السياسي وحسب، بل يدخل فيها الموقف الأيدولوجي والسائد الفقهي والمستتب القيمي والمتنفذ القبلي والرائج الاجتماعي والمزاج الرقابي والميول الفكري والهوى المصلحي، كما يدخل فيها «ما إذا كان رئيس التحرير مجرد «جرنالجي» يعتبر نفسه صاحب منصب وحسب أو ما إذا كان وطنياً مستنيراً يحب وطنه أكثر من حبه للكرسي». وهذا ما جعل محذور كتابة الرأي يتموضع ويستمر لعدة عقود في مجموعة من التابوهات المحددة التي يتعلّمها الكُتّاب جيلاً بعد جيل ويتمرَّس في رقابتها رؤساء التحرير وإن غفلوا قامت وزارة الإعلام أو حتى الداخلية بالواجب.
ولقد كانت مجالات تلك التابوهات التي تعتبر خطاً أحمر تتحدد في السؤال السياسي المحلي وفي سؤال الأحادية الفقهية وفي سؤال القبلية والطائفية والطبقية وسؤال المرأة وفي سؤال النقد عامة. وبما أن مثل هذا الحصر قد يعني جميع الموضوعات التي قد يتناولها الكاتب، فإن طبيعة العمل في الشأن العام ككتابة الرأي في الصحف قد طورت ميكانزما مرنة لجدل الصمت والكلام وجدل المنع والمقاومة وجدل الحجب و الإجازة. فتجاوزت الكتابة سؤال ماذا يكتب الكاتب لسؤال كيف يكتب الكاتب . فتصبح «كيفية الكتابة» والحالة هذه محاولة ليس للتحايل على الرقيب، بل أبعد من ذلك, تصير جزءاً من مركب كتابة الرأي في الصحف, حيث مرة يتواطأ الكاتب مع الرقيب ومرة ينجح في مخاتلته ومرة يتحول هو نفسه إلى الرقيب وتلك أعتى حالات التحايل وأفشلها، إلا بما أنه كثرة الطيران تعلّم الأجنحة فكثرة المران على أمانة الكلمة ترهف الريشة وتقطر الحبر. وفي هذا السياق نستطيع أن نقول إنه تكون بالمجتمع السعودي وفي ساحة الرأي المكتوب بالصحف فيه عبر عدة عقود ذلك النوع من الكتابة التي تعنى بإتقان «كيفية الكتابة سعودياً». وهي تلك الكاتبة القادرة على مقاومة مقص الرقيب والأهم القادرة أحياناً على تناول أي من موضوعات التابوهات دون مصادمة. وأستطيع أن أسمي عدداً من الأسماء لكتاب كبار ما كانوا ليستمروا لولا أنهم أستطاعوا أن يصمدوا بالمران على مثل هذه المهارة وإن كان بعد اكتواء بعضهم من المنع عن الكتابة, إلا أنهم تمكنوا من تكوين ما يمكن تسميته مدرسة في كيفية الكتابة بأمانة دون مصادرة. وربما لذلك رأينا بعض تلك الأسماء لا تنسحب ولا تقف ولا تتعرض للتوقيف حتى في أحلك اللحظات كما حدث في هجمة الصحوة على الصحف أو كما حدث في مصادرات رسمية إبانها وبها أو بدونها. طبعاً هذا لا ينفي السقوط أحياناً حتى من قبل أصحاب الدربة في كتابة محايدة تشبه الصمت أو تشبه أشباه الكلام، مع ملاحظة أن الحديث هنا لا يتناول من قريب أو بعيد فئات الكتابات المهادنة أو المبالغة أو المرائية أو كتابات الرثاء والمدح.
على أنه لا بد من التوقف وتسجيل تلك الحالة التفكيكية الهامة التي شهدتها ساحة الرأي بالصحف السعودية لاحقاً وعلى وجه الدقة منذ نهاية التسعينات الميلادية، فعلى الرغم مما اعتراها من مد وجزر فإنها تظل حالة جديرة بالتوثيق، بل والقراءة التحليلية. وهي حالة تفكيك عدد من تلك التابوهات أو الممنوعات المعهودة التي تمثلت في تسامح ملحوظ في تناول موضوعات الخط الأحمر المتعارف عليها. ومن أهمها في حينه تفكيك سؤال التشدد الديني وسؤال المرأة وسؤال النقد الاجتماعي لأداء بعض جهات الجهاز التنفيذي الممثّل للحكومة. وقد رأينا ذلك يحدث حتى قبل التوسع السعودي في استقبال مخرجات الثورة التقنية ومنابرها المتعددة المفتوحة في العقد الأول من الألفية الميلادية الثالثة, وإن كان واقع العلاقة بتلك المنصات يمكننا من القول بأن خطاب الرأي في الصحف المحلية قد كان ولا يزال محروماً من التأثر بالسقوف العالية لحرية الطرح في الأوعية الإلكترونية ولا يزال بحكم الطبيعة الرسمية لأوعيته بمنأى عن محاولة مضاهاتها.
والسؤال الذي أختم به هذه المراجعة السريعة لحالة كتابة الرأي هو سؤال لا يريد
إدانة الصحافة أوتبرئة الكاتب أو العكس فذلك له منظماته المعيارية، ولكن سؤالي هو سؤال الأجيال التي قد تتعود على نوع من الإضاءة الخافتة أو الغرف الرطبة أو السقوف الخفيضة التي تصبح معها غير قادرة على مد أجنحتها أبعد من المعهود، يقابله سؤال أجيال تستسهل أمر الكلمة ولا تقدِّر أمانتها بما يكفي للتدقيق فيها، والحقيقة أن سؤال حالة كتابة الرأي هو سؤال حالة البلاد، سؤال يستدل به على ما يعترينا من حالة التراجع أو الإقدام.