محمد المهنا أبا الخيل
من العبارات التي أصبحت قاعدة عقلية عند السلفيين منذ عصور قديمة قاعدة «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» وذلك لتبرير بعض الأحكام أو تشريع بعض الفتاوى التي لم يجدوا لديهم لها قاعدة نقلية فالمعروف أن النقل عند السلفيين مقدم على الاستنتاج، ولم أجد في البحث تحديد من وضع هذه القاعدة فقد قال بها فقهاء كثر من المتقدمين، ولكن وإن كانت هذه القاعدة تبدو سليمة البناء اللفظي فهي لا تتسق مع المنطق والمقصود بالمنطق هنا ليس اللفظ بل هو «عملية تنسيق وتقويم مفاهيم المعاني لتحقيق التماثل في الأذهان» وسبب عدم اتساق هذه القاعدة والمنطق أنها تحوي متغيرين هما «الحكم» و«التصور» وكل منهما يتأسس بمعزل عن الآخر, والقاعدة وإن كانت تستخدم في المعتاد في استنتاج بعض المسائل الفقهية، إلا أنها عادة ما يشار لها لتبرير كثير من الأحكام التي ليس لها صبغة دينية وهذا هو مجال جدال هذه القاعدة في هذا المقال.
الحكم والذي يشار له بمعنى «إمضاء الأحكام» على أي أمر تقتضي الحاجة الخاصة أو العامة الحكم عليه، هو عملية إجرائية عقلية تعتمد على وضع معايير الحكم ومعايير الحكم هي مفاهيم قياسية بحيث تحتمل قيم عقلية متغيرة أو قيمة محدودة في الوجود أو العدم، ولذا يخضع الحكم لمتغيرات يمكن وضعها في قالبين أحدهما إجرائي والثاني قياسي، ففي القالب الإجرائي هناك عوامل ظرفية تتمثل في الزمن المتاح للحكم وحالة بيئة الحكم والعرف السائد وعوامل نفسية تتمثل في الهوى والنزعة والمصلحة وهناك عوامل ضابطة تتمثل في القوانين والسلطة وفي القالب القياسي عوامل المعيارية حيث تحديد القيم وتوزيع الثقل المعنوي في الدرجات، و عوامل التأطير حيث الجنوح لقيم الوسط والتعميم وعوامل التعريف والتوصيف، حيث تعني كثير من المعايير معاني مختلفة عند أفراد مختلفين، ولذا هناك مجال واسع للاختلاف في نتيجة الحكم من حيث التوجه والجزم والشدة، وهذا الاختلاف منشؤه اختلاف الناس في التأثر بالعوامل المختلفة للحكم.
التصور هو استيعاب حال أو أمر بجلاء جالب للاطمئنان والاستقرار على فهم واضح للنفس، ومع أن هذا التعريف قد يقود للاعتقاد بأن التصور هو حالة عقلية نافية للشك، إلا أن التصور أيضا يخضع لعدة متغيرات لكل منها مدى وقيم، فالتصور يعتمد على المكتسب المعرفي العام حيث تمثل الحصيلة المعرفية أساسا لفهم وإدراك كثير من الشؤون ويتفاوت الناس في تكوين ذلك المحتوى من المعرفة ومدى علاقة ذلك في حال الأمر محل التصور، والمتغير الثاني المؤثر في صحة التصور هو الخبرة والدراية فقدر ما يتعرض الإنسان لخبرات وتحديات مختلفة يبني قدرة أفضل على التصور، والمتغير الثالث هو الملاحظة الآنية لحال المتصور، فالعقل البشري يدرك الآنية أفضل من الذاكرة والمتغير الرابع للتصور هو الوعي حيث يكون التصور في حال وعي تام بلا مؤثرات نفسية أو صحية، وحيث إن حال الناس في حين تكوين تصوراتهم عن شؤون الحياة في حال متغيرة في تلك العوامل فمن الواضح أن تصوراتهم عن تلك الشؤون تتفاوت بينهم وعندهم في حالات متباينة ليس لها ضابط ثابت.
في عملي حيث بعض منه هو تقييم الكفاءات للمرشحين للوظائف التنفيذية، أهتم كثير في إمضاء الأحكام التي بها يكون تقديري لكفاءة مرشح ما لأي وظيفة، لذلك أبحث كثيراً في الوسائل والطرق التي تعين في الوصول لأفضل النتائج، ومع ذلك أجد أن كثيرا من تلك الوسائل والطرق بعيدة عن توجيه الحكم الصحيح، لعدة أسباب تتمثل في التالي :
1- قياس الإنسان لقدرات وكفاءات إنسان آخر هو قياس انطباعي غير ناتج عن حالة إدراك مستقرة.
2- لا تبرز كفاءات الإنسان إلا بتوظيفها في واقع عملي وسلوكي، لذا من الصعب تقديرها من خلال المقابلة والحديث.
3- يتفاوت الناس في اكتساب الثقة من الآخرين بقدراتهم نتيجة لاختلاف مهارات التعبير عن الذات.
لذا أجد من واقع عملي أن عبارة «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» هي عبارة بعيدة عن كونها قاعدة شاملة للوصول للأحكام الصحيحة والتي يطمئن لها العقل.