قصيدة الرثاء الممزوجة بطيف التراجيديا الحزينة هي بكاء لذيذ يسمو بالنفس من أدران الخطيئة قلما أبدع فيه الشعراء، ورثاء النفس غاية الرثائيات وهو نتاج عاطفي يخرج من مكنونات القلب وثمالته كآخر قطرات الإبداع حين تنهمر على آخر صفحة في حياة الشاعر!
لست هنا الحديث عن حديقة الغروب كديوان وإنما قصيدة واحدة بعينها أردتُ! وإن كان كل شعر الدكتور غازي يغري فمفاتنه وجماله جعلت النقاد لا يهدأون في ملاحقته وروائعه قد اطربت من لا يجيد الطرب ورقص عليها من لا يحسن الرقص وحدائقه تتسامق فيها الأشجار المملوءة بعبق الأريج المضمخ أوراقه الخضراء النديّة برذاذ الصباح المنعش التي تسلب قلبك وعقلك ورودها وأزهارها الملونة الزاهية فإن أعيت عليك قطاف وردة فيكفيك التمتع بالنظر فإنها نزهة تشبع غريزتك المتعطشة للجمال وللذكريات العزيزة فهذه غاية من أجمل الغايات! ولكن هذه الحديقة تختلف عن تلك الحدائق بأوراقها وورودها وأزهارها تختلف في عمرها ونضارتها تختلف في شيخوختها الناضجة والتي اكتمل فيها نصاب النجاح فأرادت شمسها أن تشيح بوجهها للدنيا معلنة غروباً أبدياً .
لم يكن الدكتور غازي ليختار العنوان هكذا ففيه من الذكاء والفطنة والخبرة الثقافية والأدبية المعهودة ما يكفي أن يحوّل أحزانه وبكاءه على أحبته وعلى نفسه إلى مجموعة حديقة بمعناها الكلاسيكي المعهود المليء بالبهجة والسعادة والحب لمن سيفقدونه يوماً فهو اسم مجازي فيه من الكناية الجميلة ما يومئ إلى ما اختزلته الذاكرة واستنطقتنه العاطفة! حديقة أصبحت شاحبة اللون وقد اتشحت بالسواد مقطّبة الحاجبين عبوسة مليئة بالأسئلة الراحلة وإحساس التوقف وقد يبست أوراقها وسقطت كخريف أبدي زينت بها بوابتها بكلمة مقلقة اسمها النهاية!
والغروب الذي يعتبر شيخوخة الوقت وانهيار الحدث وموت الظل وهو نعي النفس ونعي ذلك التاريخ الكبير الذي بدأ بالأفول وشمسه آذنت بالرحيل إنها الخيانة المقصودة والطبيعية للربيع الطويل الذي ألفه وأحبه وها هو يتجدد طعم الخريف الذي لم يتعود على مذاقه! غروب أبكى القلب قبل العين وإحساس مؤلم بالفراق ووجع يذبل معه كل عضو صحيح لم يذق طعم خسارة الأيام ونقصان السنين بعد!
ذكر الدكتور غازي في قصيدته خمسة أشخاص هم مدار حياته وهم عنوان مشوار طويل وعصارة سنوات وعمر تجاوز السبعين سنة منهم زوجته وابنته! وكأنثى فهو يعلم ما يعني لهم الرحيل وذلك لضعف العاطفة وصدقها ولعلهم لعبوا دوراً كبيراً في حياته أما الولد الذي يعرف بأن عاطفته قوية فهو جلد بطبيعته يتحمّل الفراق وإن كان فراق الأب! ثم ذكر الأعداء والأحباب الأصدقاء الذين اشتركوا معه في كل النجاحات ولم يطنب في مدح الأحباب ولم يشتم من أبدى له العداوة يوماً في خاتمته أو يعرّج على هجائه ثم كان العنوان الأبرز الذي يكنّ له التقدير والفخر، عنوان زيّنه على صدره في حلّه وترحاله كنيشان العز والبطولة فلم يشأ أن يختم ذكر الشخوص إلا بذكر من أسدى له كل هذا المجد فأراد أن يكون وفيّاً معه بشهامة الابن لوالده هذا البلد المعطاء الذي يكن له الدكتور غازي حبّاً بملء البحر الذي لا يحدّه ساحل كان له ذكر وذكرى في قلبه لا يبرح مكانه .
ثم كان الاتجاه الأمثل كرجل مسلم والالتجاء الطبيعي إلى الله سبحانه الذي يغفر ويرحم ويتجاوز عن العبد مهما كانت خطاياه فهذه قمة الإيمان بالله والثقة به .
يتبع ...
** **
- زياد السبيت