يغتبط الإنسان ويشعر بالسرور والبهجة حين تهدى إليه زهرة أو وردة، يعرف تماماً أنها رويت بماء الحياة نفسها. هكذا هو الجلوس بين يدي نصوص كتاب «آخر المطاف»، يمنحك شعور من يجد نفسه محاطا بين 113 وردة من الأروع رونقاً وعبيرا!. يغري بالجلوس إليه، صديقاً حميماً، يملكك دفتيه، تبحر بينهما كيفما شئت، بسهولة نصوصه وعمقها؛ باقة من الجمال، وشلال من الدهشة.
الكتاب كان حريصاً منذ البداية على عدم تصنيف النصوص، رغبة في ماعند القارئ من إضافات يلقيها على النصوص فيزداد بريقها وعبيرها. نجد الغلاف الأمامي يذكرنا أنها نصوص قصيرة جدا تاركا تلك الفسحة من التفكير لدى من لهم توجهات معينة تجاه نصوص قصصية أو شعرية. لكن الغلاف الخلفي يفاجئ القارئ بأن الكتاب «مجموعة قصص قصيرة جداً.. تعتبر نفحات ونصوص أدبية». هكذا إذاً يناور الكتاب مع القارئ جاذباً إياه إلى فلك النصوص باحترافية.
مريم الحسن كاتبة تجيد الرسم بالكلمات، تطوعها تارة رواية، وأخرى قصصاً قصيرة، لتعود فتخرج لنا نصوصاً تمزج بين خواص اللغة الشعرية وأدوات القصة القصيرة. «آخر المطاف» حوى فوق المائة نص، يقفز بينها القارئ بسهولة من يطوف في بستان ورود، بعض النصوص شديد الإنغلاق يتطلب الرجوع إليه مرة واثنتين لتذوق عبقه وفك رموزه. نص «جبل» يبهرنا حين يقول:
«تهب عاصفة رملية حولهم.. تثير غباراً أسود.. تختفي معالم الأرض.. يخرج الناس عراة من قبورهم.. تسيل الدموع خشية ورهبة.. فتتحجر الغبرة كجبل أصم».
تشبيه الجبل، ذلك الكيان الضخم، بغبار ثائر جرّاء بعث الناس من قبورهم، اختلط بدموع الرهبة فتحجر فكرة مذهلة وصورة مبتكرة، تدفع القارئ للبحث عن مغزى النص، ما وراءه؟.. نص «آخر المطاف» والذي عنونت المجموعة باسمه يشرح فكرته من خلال العنوان والسطر الأخير «فتلتهمهم حيات الآرض». إذا آخر المطاف هو موت، دفن، تحلل. التساءل هو ما غاية النص من طرح فكرة معروفة؟ ومع التساءل تأتي متعة الحوار مع النص في محاولة لخلق معاني خافية وأفكار متماهية معه. نص «تشظ» لم يكن سهل المنال:
«تدخل غرفة ظلماء.. تغلق على نفسها.. تشعل شموعاَ ملونة.. تتراءى لها أشباح عدة.. رائحة عفنة تنتشر من أفواهها.. تقترب منها وضحكاتها الشيطانية ترن في الأصداء.. تصر على قتلها.. تأخذ قضيباَ وتضرب به الفراغ... فتتطاير الدماء على وجهها».
الفكرة تدعو إلى طرح أسئلة متزنة للوصول إلى أجوبة شافية.
بعض النصوص كانت أقرب إلى الشعر في عذوبة كلماتها وتغنيها وبريق قصائد النثر وخفاياها. نص «كمين» جاء شاعريا وانسيابيا.. بعبارات مثل «يلوح له طيف أبيض» و«يصحو على ذهاب الحلم». نص «نور» أيضا يبدأ بداية غنائية، «تسقط السماء نجمة ساطعة.. تحوي نورين». نص «فلذة» جاء قصيدة نثرية، «تطوف حول كعبة الأحرار سابحة في عمق التبتل». نص «شريحة ضوء» جاء قصيدة نثرية تذكرنا بالقمر الذي هو مظلم في أصله لكنه عنوان الجمال حين يعكس أشعة الشمس ويرسلها جداول من فضة تخلب الأبصار:
«تسودها عتمة طاغية، ينبعث بصيص من نور.. تتسع الفرجة.. تنفرج كشريحة عريضة.. تسفر منها الأضواء.. تبقى معتمة من الخلف.. تستمد نورها من ضوء الشمس.. فتخطف أنوارها الأبصار».
الكتاب ضم نصوصاً تقود إلى عوالم الدهشة والمفاجأة. نص «تسلق» قصير جداً لكنه مدهش في نهايته. الكاتب الذي خطف أريجه القلوب بعد أن طغت شهرته، تحين الفرص ليسرقها. في نص «وأد»، المفاجأة تأتي مرة أخري حين نرى الطفلة البريئة تحولت إلى أنثى «عارية ترقص على نغمات مشبوهة» نتيجة لوأد رسوماتها وفرحتها. نص «خطأ» جاء طريفاً في مفاجأته حين ألقت الزوجة نفسها في حضن الضيف ظنا منها أنه زوجها. النص أبدع في إخراج الموقف وكأنك تراه أمامك، في كلمات قليلة معبرة. إذا أحببت شخصاً، أطلق سراحه فربما يعود إليك من تلقاء نفسه. هكذا هو نص «عتق» الذي صور قصة العصفورة التي أعتقها الصياد، فعادت إليه مع عائلتها. مدهشة تلك المعاني التي ممكن أن تأتي إليك في حال التفكر وراء تلك العودة بعد العتق. موضوع الأنثى والذكر في العائلة كان محور نص «خيار»، امرأة تتوق إلى إنجاب ذكر وهي التي حظيت بسبع زهرات من الإناث، لكن الحصول على الذكر جاء على حساب موت البنات، كأن النص يقول لنا «احذر من أمنياتك، فربما تتحقق، كارثياً». نص «غضب» من أجمل النصوص في المجموعة، يأتي بحوار رائع على قصره:
«يرن الهاتف.. متواصلاً.. ترفعه وتجيب في ضجر.. يتحدث إليها صوت من الجانب الآخر.. أنت هنا.. والعالم تحول إلى زلزال..! تطوف في عقلها ذكرى أليمة.. أنا من صنع ذلك». مفاجأة مدهشة تدعو إلى التدبر في هذا الغضب الهائل.
هناك قواسم مشتركة بين النصوص المختلفة. لعل أهمها هو عناوين النصوص التي كانت في غالبيتها (مئة نص) عبارة عن كلمة واحدة، في مؤازرة وموازنة محسوبة مع قصر النصوص. جاءت العناوين شارح ة للنصوص وامتداداً لها، خصوصاً تلك التي أسهبت في غموضها. القاسم المشترك الآخر هو الأفعال المضارعة التى تبدأ بها جميع نصوص المجموعة، باستثاء ثلاثة نصوص (اثر وتفان وزلة). ليس ذلك فقط، بل وبدون مبالغة، جميع الجمل في النصوص (باستثناء القليل منها) هي عبارة عن جمل فعلية تبدأ بفعل مضارع كما أسلفنا. هذا النمط من القص يؤدي إلى نوع من الرتابة وشيء يسير من الملل. لكن النصوص تغلبت على سجن الرتابة وفخاخ الملل بقوتها، وعمقها، وقصرها.
«آخر المطاف» هو نصوص قيمة وغنية في معانيها، تثير الدهشة، وتصوغ المفاجأة باحترافية مبدع يحب التعامل مع كلماته، فتأتي إليه سهلة وممتنعة.
** **
د. عبدالله الطيب - روائي ومترجم وقاص - المدينة المنورة